هدية الإله(*)
قراءة في مخطوطة "سفر العاشقين"
سناء شعلان - الأردن
تتضارب الأقوال والتصريحات والمراجع والأسفار المقدّسة حول سبب خلق ذلك الكائن العجيب الذي اسمه امرأة، لكنّها جميعاً تجمع على أنّ الإله قد خلقها في لحظة تجلٍّ ورضىً، وعلى أنّه جعلها خلاصة إبداعه، وشبيه كلّ مخلوقاته، فأخذ من البحر هديره، ومن السماء كرمها، ومن الأرض حنانها، ومن الشجر حنينها، ومن الشمس وهجها، ومن الوحوش غضبتها، ومن الزهور أريجها، ومن الماء عذوبته، ومزجها جميعاً، ونفث فيها من روحه، فكانتْ المرأة. وأهداها للرجل الأوّل، الذي لا تذكر الأسطورة شيئاً عنه سوى أنّه كان كثير التذمّر، ولا يقدّر هدايا الإله، ويعيش في وحدة خرافية.
كان الرجلُ الأوّل زاهداً بهدية الإله، وسرعان ما ضاق ذرعاً بها، فهي أقامتْ الدنيا فوضىً، ولم تقعدها، وملأتْ دنياه نشاطاً ومرحاً وسلبته راحته ورتابته المجيدة، وألهته حتى عن صنع المذنّبات التي كان يعشق صنعها، حتى أنّه توقّف عن كتابة مذكراته الماجدة منذ أن جاءتْ، وحلّتْ ضيفةً إجباريةً في بيته الطيني الصغير، فقد كان إرضاؤها والشجار معها ومطاردتها في الوديان أموراً تستنفذ كلّ الوقت، وتستنزف الجهد والرغبة في الخلوة.
لكنّها أصبحتْ حديثاً كائناً لا يُطاق، يبكي كثيراً، ويغضب أكثر، وقلما يفيض عليه بالسعادة والحنو اللذين كان يشعر بهما معها في الماضي القريب. وإنهاءً لألمه وحيرته فقد حسم أمره، وقرّر أن يردّ هدية الإله، ويضع بذلك نهاية لسِفْر عذابه مع هذا الكائن العجيب، الذي ما سعى إلى أن يحصل عليه أبداً.
وقد كاد يتراجع عن قراره عندما تفاجأ صباحاً بصحافٍ من طيب الفاكهة قد أُعدّت له، بعد أن جمعتها المرأة من الغابة أثناء نومه، لكنّه عاد وجدّد النية وعقد العزم على ما كان قد نوى أن يفعل عندما غضبتْ المرأة مساءً، لأنّه داس دون قصد بعضاً من محاراتها الجميلة التي جمعتها من الشاطئ، فكسر بعضها، فاتهمته بتجاهل مشاعرها، والتدخّل بخصوصياتها، وهدر ممتلكاتها.
وقف الرجل الغاضب أمام الإله الأسطوري الغارق في بياض لحيته التي كادتْ تلمس الأرض، وقال له بصلافة:
"أنا لا أريد هديتك، خذها؛ فأنا لم أعد قادراً على العيش معها أبداً، الحياة معها جحيم أحمر."
هزّ الإله كتفيه دون مبالاةٍ، وقال: "لك ما تشاء، فالمكان هنا يتسع لي ولها ولك إن شئتَ."
"لا أريد أن أعيش في مكانٍ هي فيه." قال الرجل وهو يغادر جنّة الإله لا يلوي على شيء سعيداً بتخلصه من هدية الإله، وإن كان يشعر بحزنٍ يغالبه بصعوبة كلما تذكّر نظرة الانكسار في عيني المرأة، وهو يردّها إلى الإله. لكنّه لن يعود، نعم لن يعود، كرّر هذه الجملة في نفسه ألف مرة، لكنّه عاد، ووقف أمام الإله منكسراً موزّعاً بين كبريائه المهدور، وقراراته الخطيرة، وبين شوقه إلى تلك المرأة التي لم يفارق طيفها خياله، وطغى صوتها ورائحتها وحركاتها عليه حتى وهي غائبة، فملك عليه حواسه، ونفذ إلى مداركه.
قال للإله بتلعثم يوتّره الخوف من الصدّ والرّفض:
"لسبب أجهله أنا لم أعد قادراً على العيش دونها، يا إلهي ردّها إليّ، وسيكون لي شأنٌ آخر معها."
كاد الإله أن يرفض طلبه انتقاماً لنفسه، فأنّى لبشرٍ أن يردّ هدية منه؟! لكنّ المرأة تضرّعت طويلاً له كي يردّها إلى رجلها، فسرقتْ منه موافقة على كره منه، وغادرتْ المكان وهي تتأبّط ذراع الرجل، فيما وقف الإله يراقبهما بدهشة، وهو يضرب كفاً بكف، ويقول:
"لا بدّ أن كليهما، ربما كلاهما مجنون، أو أنّ كليهما عاشق. (**)
تعليقات توضيحية بقلم العلاّمة المحقّق:
1- الجنون والعشق مخلوقان من مادة واحدة.
2- الإله خلق المرأة في لحظة غضب ليكسر صلف الرجل.
3- المرأة لم تغادر الجنّة، بل بقيت فيها خالدة تنتظر عودة الرجل.
4- الرجل هو المسؤول عن إتلاف باقي هذه المخطوطة لأسباب أمنية خطيرة.
(مخطوط ح/ب 2)
...ومن جديد تسلّل الملل والغضب إلى نفس الرجل، فقد باتتْ الحياة مع المرأة محنة لا تُطاق، فقد غادرتها رشاقتها المعهودة منذ أن اعتادت على أن تتضخّم لأشهر تسعة، ثم تتفتّق عن كائن لحمي غريب، يشبهه ويشبه المرأة، وإن كان كذلك يشبه صغار القرود، وإن اختلف عنها بشحّ شعر جسده، فالقرود تُولد بشعر كثيف ناعم كالزغب.
أصبحتْ المرأة عصبية، وشعر الرجل لأوّل مرة في حياته بأنّ حنانها أصبح ملكاً لغيره من الصغار أشباه القردة، جاهد نفسه لينتصر على حاجته إلى حنانها، لكنّ نفسه خذلته، فوجد نفسه يتكوّر إلى جانبها ليلاً، ويوسّد رأسه إلى صدرها الدافئ.
وبدأت الأمور تختلط، تماماً كما اختلطت المشاعر وتضاربتْ في نفس الرجل، وشهدتْ السماء مئات المرات من ردّ المرأة إلى الإله، ومن التضرّع والبكاء عند قدميه لاستعادتها. وبات من المألوف أن يُسمع صوت الرجل في الجنّة مجلجلاً يردّ هدية الإله، أو ذليلاً يرجوها الإياب، حتى ما عاد الإله يأبه بالرجل الذي أسماه الأحمق، ولا بالمرأة التي أسماها الحمقاء، وإن كان يدعوهما أحياناً بالعاشقين، وردّ المرأة بشكل نهائي إلى الرجل، وقال له وهو يغادر المكان غير آبه بشكوى الرجل وبتذمّره المستمر من المرأة:
"أنت لا تستطيع أن تعيش مع المرأة، ولا تستطيع أن تعيش دون المرأة، إذن حاول أن تستطيع أن تفهم كيف تعيش مع المرأة."
قال الرجل بقهر المظلوم: "ولكنني بحق لا أستطيع العيش معها."
ردّ الإله بسأمٍ بادٍ: ها قد عدنا من جديد.
---------------
(*) تحقيق فضيلة العلاّمة إنسان بن إنسان بن إنسان أطال الله بقاءَه.
(**) ملاحظة: بقية المخطوطة تالفة تصعب قراءتها.