محمد اكويندي Admin
عدد الرسائل : 164 تاريخ التسجيل : 22/12/2006
| موضوع: بحيرة السّاج/ سناء شعلان السبت سبتمبر 08, 2007 12:48 pm | |
| بحيرة السّاج " الله هو الحبّ الأعظم، الحبّ هو الله، الله يأمر بالحبّ، والحبّ يقود إلى اكتشاف عظمة وجبروت وقدرة الله، سبحانه فهو مصرّف القلوب", هذه كلمات نوح بن لامك التّي دعاها فيها إلى استشراف نور الرّبّ، تسلّلت كلماته إلى قلبها المسكون بحب عوج بن عنق، داعب سحرها وشائجه المرهفة ورقاقته الشّفّافة حيث الحياة والرّوح، واستوطنت ما بين القلب وحشاياه حيث يكمن حبّ عوج بن عنق, ويفجّر فيها ينبوعاً من الحبّ يكفي لأن يروي كلّ عشّاق الدّنيا .
ما كان ليملك رجلٌ دجالٌ طلاسم الحياة والأرض، أنّى له أن يحيكَ كلمات السّعادة الكبرى؟؟ أنّى له أن يعرف أنّ الله حبّ، وأنّ الحبّ هو الله، لو لم يكن نبيّا؟ لقد آمن قلبها به منذ أن سمعت كلماته، التّي أطفأت عذاباتها، وأذاقتها حلاوة اليقين، منذ أن وُلدتْ وهي تسمع قومها يصفون ذلك الرّجل المكتهل بالكاذب والمجنون، ولكنّها رأت في كلماته ما لم تره في عينَيْ بشر، رأت الصّدق، ورأت ناراً من نورٍ متّقدة، فآمنتْ به، وكفرت بطواغيت قومها، شدّت بيدَيْها على قلبها الذّي يسكنه حبّان: حبّ الله وحبّ عوج، وتحسّسته بحبٍّ وسعادة، وبحرص من يملك كنزاً في صندوق, وصرخت بأعلى صوتها: "يا ودّ، يا سواع، يا يغوث، يا يعوق، يا نسر أنا أكفر بكم وأسبّكم، ما أنتم إلاّ أحجارٌ صمّاء، ليس لها قلب، لا تعرف وجيب قلب، ولا ترقّ لعاشق، ولا تهفو لمتيّم، أنا أكفر بكم، أسمعتم، أنا أؤمن بالله، أؤمن بالعزيز القهّار، أؤمن برمز الحبّ الأعظم, أنا مؤمنةٌ بربّ نوح، لتسقطي أيّتها اللآلهة الحمقاء السّماء كسفاً على رأسي، لتنتقمي لذُلِّكِ، لتنتصري لنفسكِ, أنّى لكِ؟ إنّكِ لستِ سوى حجارة ٍصمّاء, يا ربّ أنا مؤمنةٌ بكَ، مؤمنةٌ بحبّكَ الذّي شمل روحي، وأغاث ضياعي".
ردّدت أشجار غابة السّاج كلماتها، حملت الرّيح تحدّيها، انتظرت للحظةٍ بتحدٍّ لا يقل قوّةً وعنفواناً عن حبّها أن تسقط الآلهة الحمقاء السّماء كسفاً عليها, أو أن تغور بجسدها الثّائر العابث، ولكنّ ذلك لم يحدث، حفيف أشجار السّاج عزف بالطّمأنينة على قلبها، بعض شعرات رأسها تهادت مع نسيم الغابة، داعبت الشّعرات المتطايرة بكفِّ يدها، ثمّ ردّتها برقّةٍ إلى ما وراء أذنيها، وتنفّست الصّعداء ساخرةً من الآلهة العاجزة، تنهّدت محدّثةً سكون الغابة: "كنتُ متأكّدةً أنّكِ أضعف من أن تثأري لنفسكِ، أنتِ آلهةٌ أكذوبة، أنتِ طاغوتٌ صنعه الشّيطان، أمّا قلبي فهو خالصٌ لله ." "عوج . . . أين أنت؟! لِمَ تأخّرتَ؟ أنا أعشقكَ، هلمَّ إليَّ لتذوق معي حلاوة الإيمان، هلُمَّ إليَّ لنكن أوّل زوجٍ مؤمنٍ في أرض الكفر، هُلمَّ إليَّ ليبارك النّبيّ نوح حبّنا النّديّ , أنا أعشقكَ, وأعشق الرّبّ حيث الحبّ . . . عوج . . . عوج . . .وج . . .ج".
طوّقت أشجار السّاج أمنيتها الحارّة، واستلقت عند أقدام الشّجرات التّي بلغت من العمر قرناً، مسّدت الأرض بظهرها الصّغير، وانفرجت يداها وقدماها بسكون من يطير فوق الشّمس، وانتظرت عوج، تابعتْ بعينَيْها أسراب الحمام البرّيّ تقطع سماء الغابة بتماوجاتٍ جماعيّةٍ فريدة، أسراب الحمام كانت تتناوب على كشف قرص الشّمس وإخفائه، ذلك الجبّار الذي يكسي ببريقه السّماويّ أعالي أغصان أشجار السّاج، فتظهر كما أعوادٍ من نور، كم تحبّ أشجار السّاج!! كم تحبّ هذه الغابة التّي تتربّع على هضبةٍ مهولةٍ دون باقي بقاع الدّنيا!! فهنا قابلت عوج لأوّل مرّة، كانت عندها طفلة لاهية، وكان شابّاً عاتياً كلحظة جنون، جاءت لتنصب أرجوحتها على أغصان شجرات السّاج، وجاء ليقطع أشجار السّاج نكايةً بنوح، الذّي زرع أشجار الغابة كلّها، وادّعى أنه فعل ذلك تنفيذاً لأمرٍ مقدّس، سخر النّاس من الأمر السّماويّ الغريب، أمّا نوح فهدّد بطوفانٍ قادم، وعقد عزمه على بناء سفينةٍ تحمل المؤمنين بربّه إلى النّجاة، مهما كلّفه الأمر.
استمرّ نوحٌ في رعاية أشجار غابته ضارباً صفحاً عن الغمز و اللّمز وعن تندّرات القوم به، وسخريتهم من صيغه، أمّا هي فما كنت لتبالي بالعجوز المهيب الذّي يدّعي النّبوّة، ويزرع ربوة البلدة بالأشجار، بالتْ فقط بأرجوحتها التّي تنوي أن تنصبها على أعلى الأغصان لتتأرجح بين السّماء والأرض، لتكون عصفوراً آدميّاً في الهواء، أعدّت العدّة لتحقيق حلمها، حملت الحبال ،وانطلقت إلى أكبر شجرات الغابة، توقّعت أن ترى نوحاً، وأن تطلب منه إذناً للتّمتّع بغابته العجيبة، كانت مؤمنةً بلطفه، فهي ما رأته غاضباً ولا حانقاً يوماً إلاّ إذا كان على مرأى من فاحشةٍ يدّعي أنّها تغضب رّبه، ولكنّها لم تتوقّع أبداً أن تجد عوج أمامها، كانت تعرف اسمه الذّي يوقع الهلع في القلوب، فهو من شرّ النّاس، ومن أظلمهم، وكانت تعرف ملامحه القاسية الملتهبة بالغضب، فقد رأته يوماً يضرب رجلاً حدّ الموت في سوق المدينة لذنبٍ لا تعرفه، ولم يعنها أن تعرفه، فقد كان الهرب بعيداً هو من أهمّ أولويّاتها في تلك اللّحظة.
تجمّدت قدماها العاريتان عندما رأته يوشك أن يهوي بقدّومه العظيم على جذع أكبر شجرة؛ ليقصف شبابها، حدّثت نفسها بالهرب، ولكن الجذع ونصل القدّوم شلاّ إرادتها، تمدّد التّراخي إلى سائر جسدها، وانزلق الحبل من بين يديها، أحدث صوتاً رتيباً خشناً، لفت نظر عوج إليها، كانت طفلةً أمام وحشٍ آدمي، رأى في صمتها حديثاً عذباً، ولأوّل مرّةٍ في حياته ألقى نظرةً في بحر عينَيْها، ليرى قاعهما الصّافي الذّي يمور بفراته الزّلال، قال لها بهدوءٍ بعيدٍ عن طبعه: "ماذا تفعلين هنا أيّتها الطّفلة الصّغيرة؟" استجمعتْ شجاعتها الصّغيرة، وقالت باضطرابٍ ونقمة: "لماذا تريد أن تقطع هذه الشّجرة الجميلة؟" قال ضاحكاً وقد حاصرته طفولتها البريئة بأسئلتها العذبة: "أنتِ لن تفهمي سبب ذلك . . ." قالت بتحدٍّ جميل: "بل سأفهم". قال وابتسامة عريضة تجتاح وجهه المقفر من أيّ ملمحٍ إنسانيٍّ: "إذن أعلمي أنّي سأقطعها نكايةً بنوح". قالت بتعجّبٍ، وهي تخطو خطوةً لا إراديّةً نحوه : "ولكنّي أحبّ هذه الشّجرة، وأريد أن أربط حبال أرجوحتي بأغصانها". قال بلا مبالاةٍ مصطنعة غارقة في ابتسامة هادئة: "اذهبي، واربطيها على شجرةٍ أخرى، أمّا هذه فسأقطعها". قالت باحتجاجٍ ظاهر: "ولكنّكَ ستقطع باقي الأشجار يوماً ما". قال باهتمام: "ولماذا تظنّين أنّي سأفعل ذلك يوماً ما". قالت هامسةً: "لأنّكَ شرير . . ." قال ضاحكاً: "ومن قال لكِ أنّي شرير؟" قالت بحزم قزمٍ مسحور: "كلّ من يقطع الأشجار شرير".
بهت عوج للحظة من كلمات الطّفلة, ثمّ انفجر ضاحكاً، مسّد على شعرها المسدل، ومدّ قامته الفارعة، وشدّ حبال أرجوحتها على أغصان الشّجرة الأطول في الغابة، وأرجحها حتّى نامتْ، ثمّ حملها مثل كيس صغير، وقطع بها التّلال حتّى أوصلها إلى حيث بيتها.
كانت تردّد أمام أترابها: "أنا أحبّ عوج، إنّه طيّب"، فينفر الأصدقاء خائفين، كانت تردّد أمام الأهل: "أنا أحبّ عوج، فهو طيّب"، فتجحظ العيون، وتجفّ الحلوق، وتأمرها الألسن همساً بالابتعاد عنه, فهو شريرٌ عاتٍ لا يرحم أحداً، يعيث فساداً في الأرض، لا طاقة لأحدٍ في صدّه، حتّى الآلهة عجزت عن أن تضع حدّاً له، فهو شرير أرهق النّاس، وأفسد الذّراري، "ولكنّي أحبّه، إنّه طيّب" كانت تجيب حائرةً بين ما تسمع وبين عطف يدَيْه اللّتَيْن تدفعان أرجوحتها طويلاً في كلّ غداة.
وكبرت أشجار السّاج، وكبرت معها، لكنّ أرجوحتها ما كبرتْ، بقيت معلّقة بين أغصان السّاج، تحتضن امرأةّ ساحرةً، تظنّ نفسها طفلة، كلّما تقاذفها الهواء، وحلّقت بها الأرجوحة التّي يدفعها رجلٌ شرس، اعتاد أن ينير ظلماء حياته بضحكات امرأةٍ تشهق سعادةً وإثارةً كلّما دفعها دفعةً عظيمةً في الهواء.
وأصبحت أسمن من أن تحمل، ولكنّه كان مصمّماً على أن يقطع بها طريق العودة محمولةً كلّ مساء سيراً على عادة طفولتها، التّي بات يستشعر لها وقعاً غريباً على نفسه المثقلة بشرورها وآثامها .
كان فرداً ببوائقه وأحقاده أمام كلّ البشر، كان يحتقرهم جميعاً، ويبادلهم كرهاً بكره، أمّا هي فقد كانت الآدمي الوحيد الذّي قال له:"أحبّك"، قالها بكامل إرادته وبملء مداركه وحواسّه، فرد عليها حبها بكلمة:"أحبّك"ِ, قهر كلّ غلّ السّنوات وحقدها ليطفئها عند رطوبة قدمّيْها، وقال:"أحبّكِ . . . أحبّكِ . . ."
وغدت الغابة عدنهم المقدّس، هناك كانت تدركه إنساناً، ويلفيها سعادةً، انتظرته دائماً بكلّ أشواق الدّنيا، لكنّ أشواقها هذا المساء تفوق عظم غابتها، انتظرته لتهديه هديّة العمر، ستهديه الإيمان، ستدعوه إلى الرّبّ، حبّها ردّ إليه ابتسامته، وحبّ الرّبّ سيردّ إليه وجوده وقلبه وكينونته، تخيّلت قلبه يمتلىء إيماناً، تخيّلت عينَيْه تفيضان نوراً، امتلأت غبطةً، وباتت تعدّ اللّحظات لتلقاه .
وكان اللّقاء، ودعته إلى الإيمان بربّ نوح، لكنّه أبى وجدّف واستكبر، وكان الحبّ في قلبه دون أن يقوى على إنارته بالإيمان، وتخاصما، وعاد كلٌّ منهما إلى بيته من دربٍ لا يلتقي مع درب الآخر .
وهجرا الغابة التّي غدت أخشاباً في سفينة نوح، كانت سفينةً عظيمة طولها ثمانين ذراعاً، ظاهرها وباطنها مطليّان بالقار، ولها جؤجؤ أزور يشقّ الماء، جمع فيها نوحٌ من كلّ مخلوقٍ زوجَيْن، وجاء غضب السّماء أمطاراً تغرق الزّرع، وتنّوراً يفيض ماءً، ويتلف الأنفس، ويجتاح البيوت والجبال، ويسوّيها بالوحل، كانت لحظات رهيبة، الماء يبتلع الأرض بغضبٍ غاشم، الكفرة يدركون في لحظاتهم الأخيرة أن لا عاصم من الله، المؤمنون القلّة حصاد دعوة نوح التّي استمرّت لقرونٍ طويلةٍ يحزمون أنفسهم مطأطئي الرّأس أمام غضب الله, قانتي القلوب، يتسلّقون سلّم السّفينة التّي ستحملهم بعيداً، هي آخر من تسلّق السّلّم، الأمواج المتلاطمة تقفز بتحفّزٍ لكي تبتلعها، وأمطار السّماء العاصفة تثقل جسدها، وتتحدّى قوّتها، أيدي المؤمنين تمتدّ من أعلى ظهر السّفينة لتشدّها إلى سطح السّفينة، نوحٌ يأمرها بالتّماسكِ والسّرعة.
من لحظاتٍ ابتلع الموج (كنعان) بن نوح الذّي كان عزم والده وانصياعه لأوامر ربّه سدّاً منيعاً يمنعه من أن يذوب شفقةً على ابنه الكافر العاصي، ولكن أين عوج في هذه اللّحظات؟؟ من جديد صوت نوحٍ يأمرها بالتّمسّك والصّعود سريعاً إلى ظهر السّفينة، تنصاع للأوامر، لكنّ صوت عوج يملأ نفسها، كما يخترق صوت جلبة الأمواج، من نظرةٍ نصف ملتفّة تراه على أعلى أشجار السّاج الباقية بعد اجتثاث الغابة، التّي غدت بحيرةً مهولةً تضجّ بالغرقى.
لا تميّز غير اسمها من فوضى الكلمات التّي يزعق بها عوج، قد أنهار جبروته أمام يقين الموت، ماء الطّوفان يكاد يغمر رأسه، تقول بعصبيّةٍ وانفعال: "أرجوكَ يا نوح أنقذه . . . " يقول بانفعالٍ تجلّله دمعةٌ غامضة: "ولكنّه كافر، وهذه السّفينة للمؤمنين فقط". - "ولكنّي أحبّه". - "لكنّه كافر, ولا مكان للكافرين بيننا ".
كفّ نوحً تلمس كفّها أخيراً، يكاد جسده المعمّر يشدّها بقوّةٍ إلى سطح السّفينة، أذناها المشنّفتَان لا تدركان صوت عوج، تدرك بأسىً أنّ الطّوفان ابتلعه إلى الأبد، "فما قيمة الحياة دونه؟". تحدّث حطام روحها، تشدّ كفّها من كفِّ نوح، وتنزلق في الأمواج التّي تبتلعها بنهمٍ، وتبتلع آخر إنسانٍ على وجه الأرض يقول: "عوج . . . أنا قادمة . . . أنا أحبّكَ". | |
|