قـصّـتـان
عاطف سليمان
1. فتاةُ العائلة
اللوتس في سـنائه
تكونُ الأرضُ وجوداً حاراً، وبعد عصورٍ تخمدُ الأرضُ، ويندفعُ نسلُ الإنسان، وتحيا ودادُ بذراعين قصيرتين وسبعِ حباتِ نمشٍ على وجنتيْها، وتكونُ جميلةً، وتغتني قسماتُها برواءٍ حتى ليُظَنَ أن شأنَ ذراعيْها هوشأنُ عدالةٍ. تتراتبُ الفصولُ، وتثلُجُ الأرضُ حيناً ويكون ذلك مما يلائم وداد، فهي امرأة صغيرة تشرئبُ بعنقها تتنسَّمُ نداوةَ البرد وتزيغُ لكأنما بفعلِ فاعلٍ يراودها، ويتحنَّنُ فؤادُها وتتقلقلُ شهواته، وتناظر آنئذٍ ذراعيْها الضئيلتين، تباعاً، ولا تراهما غريبتين ولا تراهما قبيحتين وإنما حميمتين غامضتين لهما ألفة أعضاء المرء نفسها ولكنهما، لطرفةِ عينٍ، تبدوان لها وكأنهما ليستا إلاَّ ذراعيْ أختٍ لها.
وتُقيمُ ودادُ أعرافاً لليالي الصقيع النادرة ؛ تستلُّ كراسةَ الرسم العتيقة المُغلَّفة بالفِبْرِ الأحمرِ المُجزَّع بورقها الأبيضِ المُطفأِ الخشنِ الممتعِ الثمينِ، وهي لا تتصفح كراستَها، بل تبقيها بين يديها وقتاً يطولُ ويقصرُ قبل أن تودِعها تحت الوسادة، وتذهب فتجهِّز للاغتسال.
تحمِّمُ ودادُ بدنَها وكأنها تسقيه؛ ذلك أنها تصبُّ عليه الماءَ الفاتر بتأنٍ متجنِّبةً ارتجاع الرذاذ، مصغيةً، مرتكزةً على ركبتيها وعلى أصابع قدميها، وظهرها مفرود ووجهها متبسِّم، وبترفقٍ تتجفَّف، وتُهدِّل الشعرَ وتتغاضى عن العطر وتلتف بالعباءة وتنسلُّ إلى الحديقة ضامةً ذراعيها إلى صدرها فيما أصابعها لِصق نهديها، مأنوسةً بالصقيع، مأنوسةً بنهمها إلى الصقيع، ولا تلبث قطرةُ ماء أن تنحدر من منبت شعرها وتسري على ظهرها وتتبدَّد مُحدِثةً قشعريرة تُلِذُّها، وبعد أشواطِ السيْرِ الوئيد ودوراته الضافية تتغبشُ سُبُلها لأن الوسنَ يحيقُ بها ولأن الطلَّ يُندِّي رموشَها فيما هي ترعى في نزهاتها الليلية المُغالية إلى أن يتناهى إليها زعيقٌ طائشٌ متباعدٌ لديكيْن يتصايحان فيكبحانها ويردَّانها إلى فراشها ويفضَّان سكونها، وإذْ يسكتُ الزعيقُ تنتبهُ أن صداه يصَّاعد فيها فتغمض عينيها عليه وتشطحُ "في شِغافي لغةٌ كاملة ضليلة أُنْسيتُها مع زفيري الأول أوسَلَّمتُها أوجُرِّدتُ منها، وحدهما ذراعايْ تعرفانها، ويوشك لساني في لحظةٍ أوأخرى أن ينفلت بها" وحسبَ ما يُمكن تصوُّره ؛ لا يُمسي بمقدور وداد التصرف حيال اضطرابها الناجم عن رؤاها وشكوكها غير أن تطمسَه بتلاوة آية الكرسي ثم يشتغل لسانُها بشتى السوَر الواقية فيما هي تصعدُ درجَ البيت بهرولةٍ مكبوحةٍ، وتدخل غرفتها ولسانُها يلهجُ بالترتيل، ومن تحت الوسادة تتلقفُ كراستَها، تفتحها لترسمَ وتنقلَ بحصافةٍ "ما أُوحيَّ به إليَّ". إنها ستمازحُ نفسَها بتلك العبارة هوناً، ولسوف يسطعُ عليها نورُ الصبح دائماً وهي عاكفة على لوحات لا متناهية المجازية والعُلووإنْ كانت قلما تُلقي عليها مجردَ نظرةٍ في سياق الأيام العادية.
ذات ليلةٍ، في غمرةِ الصقيع، صاحَ ديكٌ وديكُ، ومن أقصى الحديقة جاوبتْ الفتاةُ وآوتْ إلى غرفتها ولسانها يلهُجُ بالترتيل، وفي التولحظتْ أن فراشَها قد مُسَّ وأن أغطيتها المصفوفة قد مُدتْ وطُويتْ، ولمحت هنالك نعليْن من الصوف، بُهتتْ وخَطَتْ لتتحرَّى كراسةَ الرسم، وفي الأثناء تفشَّى فيها الدفءُ الكامنُ في أرجاء الغرفة والذي ترشَّحَ من تَنَفُّسِ المرءِ الذي دخلَ، وتعبَّقَ من خيميائه، ولقد شعَّ وهجُ خديْها، ودَكُنَتْ عليه حباتُ النمش وانفركتْ قطرتا الندى من رموشها وبسملتْ شفتاها وتأتأتْ بصوتٍ لاهٍ وقد استنامت لبهجة الدفء مثل بيضةٍ تفقسُ حتى إنها ما عادت تجفلُ ممنْ انتهكَ حُرماتِها بل لعلها دنتْ من تخومِهِ تَحمِدُهُ وتتوهم بأنها ربما ـ ودون أن تدري ـ ظلت تقصدُ إخلاءَ الغرفة كيما يتسنى له المرورَ بها.
بمثلِ مشْيةِ طائرِ بَطْرِيقٍ اتجهت ودادُ آليَّاً شطر غرفة الأب والأم فلعلها كانت مُلمَّةً بما سوف تقصصه على نائميْها، بدقةٍ وبلباقةٍ، غير أنها تراجعتْ وآثرتْ الالتجاءَ إلى الحديقة والتطواف في أنحائها ريثما يفيقُ النائمان من تلقائهما. تهادت ودادُ وثيابُها تحفُّ بشجيرات الموز وكراستها تحت إبطها وهي تمعنُ التفكيرَ بأن أحدهم قد شاقَهُ الاستلقاء هنيهةً في فراشها فلا يلزم أن يكون أضمرَ الشرَ لها، وتستدلُّ على ذلك بكُنْهِ متروكاته من دفءٍ ورائحةٍ وصوفٍ. وقُرْبَ شجيرات الموز استحسنتْ القعودَ كي تستريح لأن الصبحَ كان ينبلجُ والديكة تتصايح، وكان الأفقُ يستضيئُ ونظرتُها تجيلُ في الأفق حين تبدَّي لها بحرٌ هائجٌ غامقُ الزرقة وفتىً مكروبٌ أشعثُ يناورُ على طوفٍ حَطَمَهُ طولُ السفر، رأتْ ذاك الفتى يحدِّق صوب الجهات يستجيرُ ويتلهَّفُ، وما أن لمحَهَا حتى شكَّلَ يديْه بوقاً وهتفَ مثل الذي يستوصيَّها بنفسها ويستوصيَّها بأمه، لقد بدا أنه يظن أنه يراها وأنه يعرفها وأنه يستصرُّخها بألفاظٍ لا تضارعها ألفاظُ، وفي الصقيعِ المتفاقم كانت ودادُ تُحرِّكُ لسانَها في فمها وتغمض عينيها وتفتحهما على مشهدٍ لا يني يتواصل.
مثلُ التي تلقتْ رسالة ؛ ولجتْ ودادُ غرفتها، وكراستها مضمومةً تحت إبطها، فأودعتْ النعليْن خزانتها، وانحنتْ لترسمَ أولتكتبَ.