عرفت الساحة الفكرية العربية، النقدية منها خصوصا، خلال السبعينيات من القرن الماضي موجة من التصورات الجديدة كانت جميعها تطمح إلى إعادة النظر في كل قطاعات المنتوج الأدبي. وتلك كانت هي البدايات الأولى التي أعلنت عن ميلاد مرحلة جديدة ستعرف ظهور ما سمي " النقد الجديد ". وكان الأمر يتعلق بتصور نقدي يستند في ممارساته تارة إلى البنيوية وتارة إلى السميائيات، بتوجهاتها المختلفة، وتارة إلى جماليات التلقي، ومرات قليلة إلى التيار التفكيكي الذي لم ير النور أبدا في البيئة الثقافية العربية إلا على شكل إحالات جزئية لم تشكل في يوم من الأيام تيارا مستقلا بذاته. والحاصل في كل هذا ظهور إبدال جديد يسلم ب" وحدة الظاهرة الدلالية " ويُشرط الوجود الإنساني بقدرته على إنتاج المعاني وتداولها. استنادا إلى هذا الإبدال ستعرف الممارسة النقدية، اتجاها جديدا سيعيد النظر في أدوات التعاطي مع كل الوقائع، كما سيعيد النظر في مفهوم النص وفي مكوناته وبناه الداخلية وطريقته في إنتاج معانيه.
وبغض النظر عن المردودية الحقيقية لهذه القراءات، وبغض النظر عن درجة استيعابها للمتاح المعرفي الذي وفرته الحضارة الإنسانية المعاصرة، فإن النقد الجديد ساهم، بهذا الشكل أو ذاك، في زعزعة الكثير من القناعات الراسخة التي كانت تنظر إلى النص باعتباره مستودعا لمعاني جاهزة بالإمكان التعرف عليها كليا أو جزئيا استنادا فقط إلى قدرة المحلل على الكشف عن " الظاهر" و"المستتر" من العوالم الدلالية التي يبنيها النص، سواء تم ذلك من خلال البحث عن العلل الدفينة للدلالات في ذات المؤلف أو في محيطاته البعيدة والقريبة، أو تم ذلك من خلال ربط الأعلى بالأسفل في أفق الكشف عن الرابط الخفي بين وعي للحياة - حقيقي أو مزيف - وبين بنيات اقتصادية هي العنصر الحاسم في تمثل مظاهر الحياة، وفي ظهور كل الأشكال الخاصة بتنظيم المضامين وتوزيعها على جزئيات السلوك اليومي.
ومن أجل تأسيس هذا التصور كانت العودة من جديد إلى ما يُعد المادة الرئيسة التي يتشكل منها الأدب ويمثل أمام القارئ باعتباره وقائع " مصنوعة " تتخذ شكل نصوص مستقلة بذاتها. إن الأمر يتعلق باللغة وبكل ما تختزنه من تصورات عن موجودات هذا الكون: الإنسان والأشياء وباقي الكائنات الحية، وما أنتجه المخيال الإنساني في رحلته الممتدة طويلا في عمق زمنية لا نعرف عنها إلا الشيء القليل. فالأدب ليس شيئا آخر سوى العوالم التي تبنيها اللغة. لذلك، " فالحديث عنه يقود بالضرورة إلى الحديث عن اللغة، ولا يمكن الحديث عن اللغة دون الاطلاع على الإنجازات التي حققتها اللسانيات والتحليل النفسي. ومن المستحيل أيضا الوقوف عند هذه الأعمال دون التساؤل عن فلسفة خاصة بالوجود الإنساني كله. وفي نهاية المطاف، علينا بالضرورة استحضار التصور الخاص بالإنسان باعتباره كيانا مودعا داخل اللغة وأحد منتجاتها. حينها سيسقط كل شيء : الحس السليم والبديهيات الطبيعية والسيكولوجيا " (1).
وهناك في تصوراتنا للوجود ما يبرر ذلك، فالعالم الخارجي ليس سوى مجموعة من الموضوعات المتناثرة في فضاءات ممتدة في كل الاتجاهات: الأشياء والوقائع والأفعال والممارسات المتنوعة. واستنادا إلى هذه الموضوعات يمكن الحديث عن سلمية تقويمية مستحدثة تمنحنا القدرة على التمييز والتصنيف وعزل الظواهر عن بعضها البعض، وهي بذلك تتصف بالنسبية ولا يمكن إدراكها إلا ضمن السياقات الثقافية المخصوصة.