محمد اكويندي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

محمد اكويندي

مرحبا بكم في منتدى محمد اكويندي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 جاذبية ج. م. ج. لوكليزيو (روائي فرنسي)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
بواسطة محمد محمد اكويندي




عدد الرسائل : 18
تاريخ التسجيل : 12/01/2007

جاذبية  ج. م. ج. لوكليزيو  (روائي فرنسي) Empty
مُساهمةموضوع: جاذبية ج. م. ج. لوكليزيو (روائي فرنسي)   جاذبية  ج. م. ج. لوكليزيو  (روائي فرنسي) Icon_minitimeالجمعة يناير 12, 2007 4:00 pm

جاذبية



ج. م. ج. لوكليزيو
(روائي فرنسي)

ترجمة: أحمد عثمان
(مصر)

أتذكر هذا اليوم جيدا، بعد عدة سنوات عديدة، لا تعني شيئا أذكر قدومي في كل لحظة، وأنا أراقب اللحظة التي تترك فيها الفتاة المكان المعتم الرطب كي تجلس وجدتها على الطريق المفروشة بالحصى. كانت شمس الشتاء تضيء ملابسها وشعرها، وتعكس لمعة بشرتها. في يوم ما، وجدت المقعد خاليا، والفتاة جالسة مكان جدتها، وعندما رأتني انتصبت واقفة، وركضت صوبي، ثم توقفت بالقرب مني، فزعت من الحركة الأخيرة، وتساءلت في نفسي: "هل هي مريضة ؟" قالت بصورة فجائية: "لا، غير موجودة، تتسوق في المدينة"، قالته بصوتها الواضح على انه أهم شيء في الوجود، في الواقع، كان ما قالته لي هاما للغاية، فأحسست بشيء ما يصاحبه، في نظراتها، في الضوء، في جمال وجهها، جبهتها، شعرها، كتفيها، جسدها النحيل، وثوبها الأسود.
«وأنت الى أين ؟». اذكر الخجل الذي منعني من القول أن هذه الطريق التي امشي فيها يوميا تربط بين مسكن جدتي ومدرسة الليسيه، تافهة وسخيفة إلا أنها تزيد من أهمية اللقاء بيننا، حينذاك لم اقل لها: «إنني ذاهب الى المدرسة»، بل قلت: «أنا ذاهب الى هناك»، ولم اشر الى «هناك» ولم استطع القول إنني ذاهب لجدتي للغداء، أو لتمضية «السهرة» لديها، إذ أنها اقرب الناس الى، كما هو الحال تماما مع جدتها. (هذه العجوز لا تشبه جدتي، جدتها شحاذة طيبة، وجدتي قاسية رهيبة، والأيام التي تجلس فيها على مقعدها اكتفي بالابتسام، والفتاة ذات الرداء الأسود، تلاحقني بنظراتها، وهي جالسة في هدوء، لا تنبس ببنت شفة، تلاحقني فيخفق قلبي بقوة حتى اجتاز المنعطف الثاني).
أحب رؤية الفتاة ذات الرداء الأسود، في كل مرة وأنا راجع من مدرسة الليسيه، أو في أيام السبوت والآحاد، ألقاها واقفة في ممر البناية الضيق، لأطرح عليها أسئلة، معرفة من تحبه، من ترغبه، وأترقب الإجابات في عينيها واسمع خفقات قلبها، وأضم عينيها الصغيرتين، أحاول فهم أي شيء، عرض أي شيء، لكنني لا اعتقد غيابها عن آخر الممر. كانت طيفا، خيالا، ودائما حاضرة في هذا المكان العبثي الكائن على ناصية الشارع الملآن بالشاحنات والعربات، في البرد القارس ووحدة الممر، أسفل البناية العالية، أمام الزفرات الصادرة من الغرف التحت أرضية، كنت في حلم، حلم ساحر وغامض، مشهد خلاب وفاتن بعيد عن الواقع عبر الأحزان، وأسرار الأحياء المجهولة، مشعوذ مثل هذه الفتاة الصغيرة التي أراها الآن، مشعوذ يؤدي حركات بهلوانية أمام والده وهو يطلق ضحكة متقطعة متقلصة على وجهه الشائخ، لكنني لا اعرفه ولا افهمه، انه الحلم في أبهي صوره، صور معتمة مشوشة، وهذه النظرة لا تصدر من اي كائن آخر متواجد على سطح عالمنا، هذه النظرة قد تكون حبا أو موتا، رغبة، خوفا أو معرفة، كبرياء أو احتقارا ربما...
الآن، أذكر أن فتاة غريبة تقف في آخر الصالة الواسعة الخالية المرعبة تمسح نظراتها العالم بأسره. اذكر نسياني لكل لحظة مرت بي- ذات ظهيرة، قبل قدوم فصل الصيف، كانت الرياح عنيفة والسماء زرقاء صافية، كان اليوم احد على ما اذكر، لم أذهب يومها الى الليسيه، ورحت الى البناية العالية البيضاء، وبلغت مدخل الممر الضيق، لم أجد المقعد المصنوع من القش، فشعرت بانقباض ووحشة في صدري وأنا أفكر في غيابها، غياب أصوات الأطفال، الضحكات، الصرخات الباكية، الكلمات المنطوقة بألسنة مجهولة، كلمات جافة وعنيفة، أحيانا ناعمة كالموسيقي.
بالقرب منى، وفي هذه اللحظة، كانت حاضرة الى درجة أنني أستطيع لمسها، تتطلع ناحيتي بعينيها الغائرتين، اللامعتين، نظراتها التي لا أستطيع تجنبها، تحاشيها، نظراتها المتسائلة. فيما بعد، سمعت صوتها، مهمهما بكلمات مبهمة، سمعت صوتها الخفيض، الأجش ذا اللكنة الغريبة - أهي الأسبانية، الروسية، البرتغالية ؟ تقول، تأتي، تظهر، تتذكر، كما كان الأمر عندما لفظت (R). وهي تشدد في نطق المقاطع الأخيرة من الكلمات. تلتفت الى أمها، العجوز ذات نظرة الساحرات، التي تشحذ من طاولة الى أخرى، تتحدث إليها بلغتها الغريبة ولذلك تبينت عددا من الكلمات الأسبانية، لا اعرف - أبدا - إن كانت تتحدث عني ! تتفحصني العجوز بنظرة مشحونة بالغضب، وتدير جسدها عني تمر على طاولات الرواد.
كانت نفس النظرة، التي عرفتها سلفا، تشدني دوما الى الوراء، الى هذه البناية القائمة على ناصية الشارع وقتما رحت الى المدرسة ذات شتاء، متمشيا في بطء جوار شارع الكورنيش وعند اجتيازي للمنعطف - تلك بناية ضخمة كتب عليها بأحرف كبيرة كلمة واحدة لا أنساها أبدا، مثلت لي شيئا غامضا محذرا: جوديكس.JUDEX
رأيت بناية الغرباء التي يقطنون فيها، التحت أرضية، وفي كل مرة، امشي أمامها تتسارع خفقات قلبي بسبب صوتها، ضجيجها، وجه امرأة ألمحه مع زفراتها واستماعي الى بكاء طفل وليد. لا يحدث هذا مع أطفال الأثرياء، غير انه بكاء خفيض بطيء وممتد. ذات ليلة، تجولت في هذا الشارع، ربما خطوت مسرعا على غير العادة دون تفكير في العودة، كانتا حاضرتين، أسفل البناية البيضاء، في الممر الضيق القصير المفضي الى المدخل. كانتا حاضرتين : العجوز المرتدية السواد ذات نظرات الساحرات، جالسة على مقعد من القش، وأمامها تقف الفتاة ضئيلة في ملابسها السوداء ساكنة كأنها تنتظر أحدا ما شيئا ما، وجهها شاحب، مختفي خلف شعرها الاثيث، وعيناها ساكنتان لامعتان. أخطو مسرعا نحوهما، تستدير ناحيتي في هدوء. تتطلع الى، اليوم نظراتها تجتاحني، تحررني وتبدلني، لكنني لا ارغب في التحدث، في البداية، كانت نظراتها حارقة، مضطربة، وسط وجهها الشاحب، نظراتها بائسة متسائلة، هذا النداء، هذه العذرية، لم يغيبا عنها رغم مرور الأيام.
كانت نظراتها تلاحقني، نظرات حساسة في الضوء الذي يغمر عتمة الليل، أعتقد بوقوفي ثابتا أمام هذه النظرات، هنا، في هذا المسكن، فأقول في نفسي: تكمن المأساة في كون هذه الغرف تعيش بلا إنارة، انهم يعيشون في سجن، يعيشون كالعبيد. كنت واقفا في منتصف الممر، والفتاة ساكنة لا تنتبه الى الآخرين، من يستحثون خطواتهم على الطوار. أنا وحدي من تتطلع إليه كأنني من تريده (أنا من تنتظره). أنا وحدي من اختارته، كم مضيت من وقت واقفا على الطوار متعلقا بنظراتها المتكدرة الغامضة، قلبي يخفق بشدة، ولا اعرف شيئا آخر لا أعرف، واليوم يثيرني التساؤل عن أخطائي بقدومي الى هذا المكان، لكنني اذكر انظارهما تتنقلان من طاولة الى أخرى، لا احتمل ذلك، سوف اصرخ وأدق على طاولتي:
"هنا ! انظرا ناحيتي ! أنا هنا، هنا !" أدارت الفتاة رأسها نحوي، وقد شعرت بنظراتي القاسية المكفهرة، وتخيلت صرختي الصامتة. التفتت ناحيتي بجسدها، كانت جميلة، رائعة تحت أضواء السقف، تخيلتها واقفة على خشبة مسرح تحت الأضواء القوية، وجهها أخاذ، منحوت بدقة مع شيء من التوقد والحيوية في عينيها المتعبتين، في رسمة شفتيها ونضارة وجنتيها. وضعت قبضة يدها اليسرى في يدي اليمنى وطرحتهما في غيظ، وعلى الرغم من بعد المسافة تماثل إيقاع تنفسنا.
إذ ذاك تلاشى خوفي ولم أحس بأي غضب، خوف أو نفاد صبر، بل شعرت بالنشوة كلما تطلعت الى تلك المرأة المجهولة. وغاصت نظراتها في دواخلي – لم أعش ما يحدث حاليا، من قبل، لم اشعر أبدا بهذا الضياع، بالنسبة لي، كان حضورها يملأ جنبات الصالة، وخارجها أيضا، المدينة الغريبة في الليل، كل شيء، والصور العابرة ترحل فيهم وتنسل هاربة كي تملأ المدينة والحياة، لذلك وقفت ساكنا، دون حركة، ربحت قليلا نتيجة حظ غامض غبي. كم مضى من وقت علي هنا ؟ لا اعرف، لا أستطيع القول، وطوال ساعات وأيام وقفت في صالة الاحتفالات حيث يتحرك الناس كالأشباح فيما العجوز المجنونة تقفز بخطواتها المهتزة من طاولة الى أخرى وهي تصدر أنينا خافتا، وتهمهم بدعوات أو تلاوات. وطوال ساعات وأيام كانت نظرة الفتاة الغجرية الحزينة تستعر كالشمعة فكنت أشعر بغربة الرغبات، الحرارة والأشياء عني، كل ما رأيته خلال الثمانية عشر عاما الأخيرة، أكد لي مدى غربتي عن المكان وأنساني هذه الأعوام كالحلم الضعيف. لم احفظ شيئا أو ابحث عن اي إنسان في يوم ما من حياتي مثلما حدث معي اليوم - ثمانية عشر عاما من الحب المتقلب، ارتياد المطاعم، حضور الحفلات التافهة، الرحلات الجماعية حيث تنبثق الإباحية والمساخر. ثمانية عشر عاما أبعدتني عنها، عن نظراتها، تلك الشعلة المنكسرة اللامعة في عينيها، وكذلك عن جمالها الأبدي الحقيقي.
مر الوقت سريعا كالحلم، كانت تلك حياتي، في مدنه، مع ناسه، مهنتي، أصدقائي، صديقاتي، رحلاتي الخيالية، كل ما سبق انعكس في عينيها اللامباليتين. الملتهبتين، بقوة اشد من اي أضواء أخرى تومض في الحفل. خفق قلبي بجنون باحثا عن تحطيم قفصه. لحظتئذ، توحدت نظراتنا، فوجدت نفسي ذاتها أخيرا. لم يتغير شي ء "بي" منذ كنت طفلا أبلغ الثالثة عشرة من عمري، ادخل الى مسكننا بعد المدرسة اعبر الطريق وأنا احمل كراساتي، وكتبي تحت إبطي، وقد أحطتهما بغلاف بلاستيكي، على امتداد الطريق (الطريق المؤدية الى ايطاليا، وهي الطريق التي تجتازها الشاحنات، الحافلات والعربات وسط سحابة ثقيلة من الغاز المحترق). ارتقي الربوة متجها نحو الممر، تقريبا بعد المنعطف الكبير الذي تصر الإطارات عنده، فأرى هذه البناية ذات الطوابق السبعة، المطلة على الطريق الشبيهة بباخرة عملاقة خاوية، لم أحبها قط، وغالبا ما كانت البناية تجذب نظري إليها، أحيانا، تهتز ستر الطوابق العليا بفعل الهواء صوب الفتاة الأسبانية، فأرى وجهها، أرى وجهها شاحبا، شبحيا، إما الطوابق السفلى فهي من تجذب نظري حقا إليها. في هذه الطوابق، يتكلم من أعرفهم، ويعجون داخل هذه الخلايا المعتمة. كانت الموسيقى رائحة المطبخ.
بدت لي هذه الليلة مرة أخرى تساءلت: مرة أخرى ؟ هل رأيتها من قبل، في زمن آخر أو في نفس المكان ؟ هل تقابلنا قبلا ؟ فلماذا اجتاحني هذا الإحساس بخفقات القلب وقت ولجت هذه الصالة الواسعة ؟ كانت العجوز ذات النظرات القاسية تصحبها، وكانتا ترتديان السواد كالغجر، اجتازت الفتاة جانبا من المشرب في ثقة. وجهها جميل وضاء، واضح بفعل الأضواء المنعكسة عليه والمثبتة في السقف. لماذا أحسست وجودها قبل رؤيتها، عفوا قبل رؤيتهما، لما دفعت الباب الزجاجي، أحسست أنهما قادمتان من جوف الليالي الغامضة الى هذه الليلة الرهيبة، كأنهما لاجئتان الى هذه الصالة الواسعة التي تشبه القفص ؟ ذاك ما أحسسته متغلغلا في دواخلي كالنظرة الغريبة، كنسمة هواء على جلدي، حقا، انه خطر محدق بي.
حين دخلتا الى هذه الصالة الغريبة، أنشأتا ترفلان في ثوبيهما، الأولى شابة جميلة لها وجه حلو الملامح، الأخرى عجوز سمراء جافة الطبع، منغلقة، نظرتها قاسية، لكن حين تسارعت نبضات قلبي في قوة، حسبت لهذه اللحظة أهمية كبيرة، إذ أنني - وحتى الآن - لم أجد ما أعيش له. لم أنجز شيئا إلا مصادفة، واذا تركت مقعدي وانتصبت واقفا. كنت كمن على وشك الرحيل أو المرور أمامها، لا اعرف حقا.
رأيتهما تخطوان في الصالة الواسعة، هي في المقدمة، لا مبالية، تتهادى عند كل طاولة، ونظرات العجوز تلاحقها، باحثة عن شيء ما، وعندما وصلتا الى نهاية الصالة فهمت سبب حضورهما، فمع كل وقفة تجذب العجوز وردة من سلتها وتقدمها الى احد الرواد الذي يشيح بوجهه كالباقين عنها في غيظ وقرف أحيانا، إما الفتاة، فجمالها الأخاذ، وجهها الأسمر، عيناها الواسعتان، فمها بشفتيه الممتلئتين، يداها الرقيقتان، وجسدها اللدن الرشيق، يجبرهم على ملاحقتها بأعينهم، وهم يتجنبون الخوض في الحديث الغامض، اللامبالاة الخادعة أو الغضب المثير، وقد أطلقت العجوز صوتا غريبا، حوله الخوف الى صياح. انهما تتقدمان، في حركة دؤوبة متواصلة، شطر آخر الصالة الواسعة، التي غدت في لحيظات مكانا صامتا وخاليا. كنت، أنا القاعد الى طاولتي الموضوعة في منتصف الصالة، لا أرى سواهما ولا اسمع إلا همهمتهما، لاحظت حركاتهما، تسمعت كل همهمة خارجة من فمهما، خاصة صوت العجوز الخفيض النائح والصوت الأنوف للفتاة الجميلة، في توقفهما أمام كل طاولة بلا عودة الى أخرى توقفتا عندها قبلا. نظراتهما المصوبة صوب البعيد نظرات غامضة لامعة بوميض حاد، نظرات شبه مذعورة. كان قلبي ينبض بقوة بين أضلعي، والعرق يبلل راحتي يدي. ممن خفت ؟ كيف تستطيع المتشردتان الغجريتان تهديدي ؟ (لأنني - في الوقت الحاضر- لا أستطيع الارتياب من كونهما متشردتين، بثوبيهما الفضفاضين الطويلين وشعريهما المشعث، و«الكحل» الفاحم السواد المرتسم حول عيني الفتاة، وكذا وجه العجوز الشحاذة، ذو الجرح الغائر من «ضربة» مطواة). غير أنني تأثرت من هذا المشهد، كأنه موجه لي وحدي، كأن المرأتين لم تدخلا الصالة لبيع الزهور وإنما للبحث عني.
حين انتقد ذلك، خفق قلبي سريعا وقويا، ذلك هو الخوف، والآن يمنعني الغضب عن التفكير ويجبرني على المكوث قاعدا في مكاني، أراهما وأتابعهما، لا احتمل العجوز القبيحة الشرسة التي ترتدي السواد، مشيت في الممر المفروش بالحصى محاولا منع إصدار أي صوت لوقع قدمي عليه. ممن خفت ؟ ليس الخوف، إنما الوحدة الموحشة في هذا الصباح تحت السماء الرحبة مثلما يجري في هذه الصالة الواسعة، بجانبي تلاحق السيارات الرائحة والغادية على امتداد الطريق وفوقي نوافذ البناية مغلقة. نوافذ عمياء دنوت من البوابة، وعلى حين غرة ظهرت أمامي، ضوء الشمس يلمع على شعرها وفي عينيها، ولأول مرة ألفيتها تضحك. كان وجهها يعبر عن الحرية والسعادة الوحشية، ذاك تعبير قوي يلمع في عينيها بقوة لا احتمله.آنذاك، لم تعد طفلة، كانت امرأة في خطوها نحوي، امرأة جميلة، حرة ومرغوبة ومشت الى، لمستني بذراعيها، وقفنا صامتين في مهب الريح وفي منتصف الممر المفروش بالحصى - لم اشعر بما حدث، هذا التعبير افقدني هيبتي، نظراتها نقية، هادئة وراغبة، إلا انه حدث ما أشعرني بالخوف وليس بالوحدة، الخوف من أن أكون «محجوبا» أن أكون شخصا آخر، بتبديل قدري. رغبت في التراجع، وهي - الفتاة - شعرت بالصقيع الذي اجتاحني وهزني، فقالت عددا من الكلمات بصوتها الأجش، خفق قلبي وخجلت، قالت: «ماذا هناك ؟ ماذا تريد؟».. كانت عيناها تسألني بالحاح، تبحث عن الحقيقة في دواخلي، لكنني فضلت الصمت. فكرت في الرحيل ومقابلة زملاء المدرسة الذين ينتظرونني عند الموقف للعب الكرة، أو العودة الى مسكن جدتي، والتهالك في النوتيل لقراءة المعجم، وأنا استمع الى الموسيقى وارنو الى ضوء الشمس، كانت الفتاة الغجرية تتحدث، وعواطفها الجياشة تفرز لكنتها الأجنبية، غير الموفقة: «إنها غير موجودة، لن تأتي الليلة». شرعت في التحدث ولم أجد الكلمات المناسبة: «لا أستطيع الجلوس لكنني..» تابعتني بعينيها وأنا أتقهقر للخلف بظهري حتى بعدت عن المكان، مشيت بخطوات وئيدة، ثم أسرعت الخطو، وأخيرا ركضت، ركضت أنا العاشق ووقع قدمي على الطوار يصم أذني، لا أعرف وجهتي، لا أتذكر بالضبط موطىء قدمي، خلال هذه الظهيرة في الشوارع المقفرة وحدائق المدينة.
فيما بعد هدمت البناية، سألت رئيس العمال عنهما، هز كتفيه وقال : «أين ذهبتا ؟ كيف اعرف وجهتهما؟ ذهبتا الى هناك، الى اي مكان بعيد، هؤلاء الغجر لا يمكثون في اي مكان لفترة طويلة..» منذ ذاك لم أرهما، ألتهمهما الزمن، ومشاغلي الحياتية، فمسحتهما من ذاكرتي الى أن ظهرتا أمامي من جديد، في هذه الليلة، وقد توقفت الفتاة أمامي وراحت تتطلع الي. فجأة أشاحت بوجهها عني، ونظراتها تحمل تعبير الخوف والقلق.
رددت الصالة الواسعة الخالية جلبة ولغط الرواد بين جنباتها، وقد انسابت موسيقى «رومبا» لتزيد من دوار رأسي. من بين الطاولات انسلت العجوز ممسكة سلتها الملآنة بالورود، تصحبها الفتاة التي ترتدي السواد في خفة جلية حتى اختفيتا من المكان.
وفي لحظة واحدة، كما يجري في الحلم رأيت خيالهما أمام الباب حتى ابتلعهما الليل.
القصة مختارة من:
J.M.G. LECLEZ,o, PRINTEMPDET AUTRES SAISONS
Eol. GALL, MARD, PARIS, 1988.
* ج.م.ج لوكليزيو.. روائي فرنسي معاصر شهير، من مواليد 13 ابريل عام 1940 لأب إنجليزي وأم فرنسية، عاش لفترة في جزر المارتينيك التابعة لفرنسا. تلقى تعليمه في الآداب.. وهو في سن الثالثة والعشرين كتب أولى رواياته: «المحضر» التي نال عنها جائزة «رندو» التي تقارب جائزة «جو نكور» في قيمتها الأدبية.. تدور معظم نتاجا ته، سواء الروائية أو القصصية، عن المهاجرين العرب - المغاربة والأسبان والبرتغاليين، مدافعا عن مطالبهم وحقوقهم المشروعة كما نص عليها الدستور الفرنسي.
من نتاجه الروائي والقصصي: «صحراء» «الحمى»، «الطوفان، «الحرب » «الدائرة ووقائع أخرى» «الباحث عن الزمن»، «الربيع وفصول أخرى» «أونيتشا».

القصة مختارة من : الربيع وفصول أخرى، دار جاليمار، باريس،1988.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
جاذبية ج. م. ج. لوكليزيو (روائي فرنسي)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
محمد اكويندي :: مختارات-
انتقل الى: