الوَرَثة
الأديب مفلح العدوان
الوَرَثة !!
للبعيدين أخفض جناح الشوق من اللهفة ، وأهمس شفيف صمتي : قتلني السر !!
للبعيدين أسوق توق الفراش لمعانقة النار ، وأبتدي بوح الحكاية ، كاشفا الناموس الذي أتكتّم عليه ؛ في أني لم أكن أحب العنب ، وما كنت أرغب يوما في مقاتلة الناطور ، غير أنهم أرغموني !!
***
هكذا يترتب سرد ما حدث :
الأحمر الذي أتوق لرؤيته ، لم تلوثه بشاعة الدم الذي كان يثيرني ، فيتصبب عرقي ، وأوشك على التقيؤ ما ان أراه يسيل حتى وإن كان كذبا على جسد ممثل ، غير أني كنت أرسم هذا اللون في مخيلتي مُلفّعا بغلالة الورد ، أو مبهورا بنشوة النبيذ ، لذا فأنا أدخل الآن كهف الكلام مغمضا عيني كي أنحت ما أريد أن أرى رغم قتامة ما حولي من مسميات ..
أبدأ طقوس كتابتي ، فأقدح البوح بصوان حرفي كي أنير جزءا من ذاك الظلام .. ها قد بدأت أرى ، عيني الى الداخل مقلوبة تسعى لاكتشاف كمأ الحكاية التي نفرت بعد أول ومض ، فكان أول الدهشة سؤال : كيف دخلوا الى كرمي هنا ؟!
كرمي الذي أحطته بالضلوع ، والشرايين ، والأعصاب ، والنبض ، والحلم ، والذاكرة ، والهجس ، وحصّنته بصمتي الذي تعالت دلالته لتتساوى مع اعظم القديسين !!
***
لم اكن اريد قتل الناطور ، لكنني حين اكتشفت أنه لم يتبقى عنبا في الكرم ، ولا نبيذا في الخابية ، راقبته بشوق لمعرفته ، لسبر كنهه ، لرفع الحجاب عن بشاعة جشعه ، وقرف نهمه ، ودناءة رغبته في مصادرة الكرم ، والتسلل الى نبض صاحبه ، ومحو ذاكرة مالكه !!
شاهدته : حين يشبع ينام ، وحين يجوع يبيع !!
***
حملت خنجري ، وقتلت !!
***
أحاول الآن الحفاظ على صورة الكرم في الذاكرة كما هي حين صادروه ..
أتوجه بكل ارادتي الى صندوق رأسي ، حيث الجمجمة التي تتكدّس فيها كل تجليات الماضي عن المكان الذي أحببت ، وفيه نضجت ..
صارت التفاصيل تبتعد قليلا ، قليلا ، وبات الرعب يخلخل جلال الكرم نقطة ، نقطة ، وأنا أحاول مرة الهروب ، ومرة التذكر !!
بيني وبين رأسي مسافة تكلست فيها الأفكار حائرة بين الخوف من الآتي ، وبين محاولة استعادة الكرم حتى ولو كان خاوٍ من أي عنب ، وخال من أي بشر !!
***
الخطوة الأولى كانت تغيير اسم الكرم ، لكني عرفته ، رغم محاولة الغرباء ، الذين كانوا يقلمون دواليه ، ويعملون على تغيير تضاريسه ..
الخطوة الثانية ؛ لم تعد تهمني ملامح الناطور ، لأنه لم يكن يظهر لي بعد أن قام بتأجير حقلي ، وأخذ منه كفايته من العنب ، ومن معتق النبيذ ، فصار الغرباء يهتكون براءة الدوالي ، ويتسللون بضجيج عبثهم الى كل تفاصيل روحي فيمزقون نقاء دمائي باستفزازهم لي ...
زادت سطوة الناطور ، ومعه تجبر الغرباء ، فتجاوزوا حدود الكرم باتجاه
جسدي ..
اقتربوا .. صاروا على مرمى همسة مني ، وكنت أريد أن أواجه الغرباء ، وأعاتب الناطور ، لكنه ، وقبل أن يتعالى حبل الكلام بيننا وجدته يشير الي قائلا لهم : منحتكم نبضه ، وأقطعتكم ذاكرته !!
اقتربوا أكثر ، وابتعد الناطور عني حاملا عناقيد العنب ، وزقاق النبيذ !!
تحولت ملامحهم الى هيئة ذئاب ، ونبتت لهم أنياب تسيل حولها خطوط دم بلون قان أكرهه ، ولا أطيق مشاهدته أبدا .. خفت ، فتراجعت ..
هربت ، فتبعوني ..
عشرات السنين وهم يتعقبوني ، بينما الكرم غائب عني ، وطعم العنب تغير ، وتكرّش الناطور ، ثم أقام في مسكني ، وزادت سلالته أبناءا من طينته ، ومن معتق خمري ..
بقيت أهرب ، وأرقب لحظة يغفو فيها الناطور ..
كنت أخاف على صندوق ذاكرتي ، ومشكاة روحي من أن يصلها الغرباء بعد أن أطلقهم الناطور ، كلاب أثر ، ورائي ..
أهرب ، فيتعبون ولا أتعب ، حتى نام الناطور وكان خنجري بيدي ، فقتلته ..
لم يتوقف الغرباء ..
رأيتهم يضحكون كثيرا ، ولم يبكوا حين فارقهم الناطور بل أحضروا ورثته ليكملوا أكل العنب بدلا من أبيهم المرحوم ، واستمروا في مطاردتي !!
***
لا أرى احدا ..
كأني محبوس في تلك الزاوية من الشهيق والزفير فقط ، وأتحرك في مساحة لا تتجاوز بصمة يدي ..
الآن .. لا أريد العنب ، ولا جثة الناطور .. هل استطيع الاحتفاظ بصندوق ذاكرتي قبل أن يتقاسمه الورثة ، أو يسرقه الغرباء !!