شجرة فوق رأس
الأديب مفلح العدوان
شجرة فوق رأس !!
كهل ينقل الموتى ، ويبحث عن آخرين !!
يمشي شرقاً ، ويبكي …. ينظر غرباً ، فتزكمه الرائحة ….. يتأمل الجنوب والشمال ؛ هي ذي الجثث مصطفّة ، بلا حياه !!
لا نبض البتّة !!
وكلما سحبته المسافة نحو أيّة جهة ، كان يجد الظلال ، ويعاين كثافة الكتل البشرية …. يهشّ لها ، ويتلهّف للقائها …. يُقبل بشغف وباندفاع إليها ، ثم يحضنها ، كأنها ما تبقى من الحياة … كلّ الحياة !!
لحظات ، ويتبدد الوهم أمام الجمود ، مكتشفاً ألاّ قلق فيها …
لحظات أخرى ، ويحسّ برودة الكائنات التي يُقبّلها …. فيتريّث قليلاً ….
يمعن التحديق في الأجساد حوله :-( يتأمّل العيون ، فيراها لا توحي بشيء …. يعاود جسّ نبض الكائنات رامياً رأسه باتجاه أيّ حضن يصادفه … صارت كلّها واحدة ، ببرودتها !!)
يزداد افتقاده للحياة في كل ما حوله ….
يصير الإفتقاد فقداً دائماً !!
يتشمّم الأبدان ، علّه يجد تلك الرائحة الدافئة فيها ، ويتنقل برأسه جاسّاً بلهفته ذاك المذاق الشبيه باللون الأخضر ، وتلك النداوة القريبة من لون الشجر ، مع انتصاب مرن أمام هزّة الريح !!
يضغط برأسه مختلساً السمع لنبض يعلن عن شيء في الأبدان ….
يحاول نبش نسمة روح فيها، فيطرق الأجساد أمامه ، ولا يسمع إلاّ ترداد الصدى في صناديق لا ينبض فيها إلاّ الفراغ !!
يعاود البحث كرّة أخرى ….
يحفر عميقاً في الأرض … فيلاحظها جدباء ، فقيرة ، ولا تنبيء عن شيء !!
يتمتم لروحه : ( حتى الأرض صارت بلا نبض !! )
يفرك عينيه مذهولاً حين يكتشف ضياع النبض !!
* *
كان العمر قد مضى ….
وكان النتن يزداد ، فتُزكمه الرائحة !!
تساءل بضيق : ( أيّ مكان هذا الذي أنا فيه ؟! )
فوضى من الجثث …..
كلّ المساحات حوله موتى ، وما من مكرم لها !!
( من قال أنّ كلّ الموتى مدفونين ؟! ). تساءل وهو يرى الفوضى في الأدوار، والوهم، والفهم…. كانوا جميعاً يتحركون، ويمشون، بلا نبض، وكانوا ينتظرون إكرامهم!!
* *
كهل ، وينقل الموتى ، صار !!
إختار بقعة صامتة ، فارغة …. وعارية إلاّ من التراب …. وما اختار الجثث التي دأب على نقلها إلى المكان... كان يحمل ، بعشوائية ، أية جثة تصادفه …. وكانت كلّها، أمامه، سواسية كأسباب حزنه !!
* *
دائماً كان يحوّم حول تلك المساحة كأنه يتعبّد بعضه فيها ، وكأنه يراها جيلاً يورّث إلى جيل، بينما هو، كل حين، يعود إليها حاملاً جثة على كتفه، وما أن يصل حتى يكدّسها بجانب سابقاتها من الجثث، ثم لا يرتاح حتى يزرع شجرة فوق رأس الجثة !!
* *
كهل ، وينقل الموتى ، كان !!
والسنون بعدد الجثث …. والشجر بعدد الموتى !!
صار المكان متنزّها يرتاده الزوّار ، مرّة كلّ اسبوع ملقين جثثهم وسط الغابة التي تنتظرهم ، فتتذكّر تلك الرؤوس التي تخفيها بين جذورها !!