أحمد عبد اللطيف
صدر للكاتب الاسباني الشهير خوان مياس مجموعة قصصية جديدة عنوانها " الاشياء تنادينا
اخترنا منها هاتين القصتين اللتين تعبران عن جو العمل ككل .
سأموت غدا
لا أدري في أية لحظة في اليوم انتبهت أنني في يوم الخميس ، مع أن الباقين مازالوا في يوم الأربعاء . لكن ذلك حدث لي مرات عديدة ، ولم أعره إهتماما . فهناك أسابيع يود الواحد منا أن تنتهي سريعا ، فيقص منها يوما . مشكلتي بدأت بالتحديد يوم سبت . حيث انني وزوجتي اعتدنا ان نذهب للسينما ونتناول عشاءنا بالخارج ، وأحيانا ندعو صديقا وزوجته ليصطحبانا . حينئذ اقترحتج علي زوجتي أن تهاتف عائلة جوتيريث ليخرجا معنا هذا المساء . فأخبرتني أننا مازلنا في يوم الجمعة . لم انبس بكلمة ، لكنني بقيت حائرا
أنا أعمل في البيت ، فأنا بروجرمر ، وعلاقاتي قليلة بالعالم الخارجي ، وبالتالي لا أثق في أحاسيسي . لذلك ، قبل أن تذهب زوجتي لعملها ( فهي رئيسة قسم العملة الصعبة بأحد البنوك ) نزلت لشراء جريدة ، وتحققت اننا في يوم السبت .
أنظري للجريدة حدثتها ووضعت الجريدة علي ترابيزة المطبخ حيث كانت تتناول فطورها .
ماذا يجب أن أنظر ؟ .
في أي يوم نحن .
الجمعة ، 15 أكتوبر .
اقتربتج ونظرتج ، من وراء كتفها ، للتاريخ المكتوب أعلي الجريدة ، ورأيت أنها محقة . لكن عندما ذهبتْ ، وعندما عاودتج النظر للجريدة ، رأيتج أننا في يوم السبت 16 أكتوبر . فأدركتج أنها قرأتْ جريدة الجمعة ، بينما قرأتج أنا جريدة السبت . بمعني آخر ، ولسبب لا يمكن تفسيره ، كنت اعيش أنا يوما سابقا علي بقية البشر . فقمت ببعض الافعال لاتحقق من ذلك ، فكانت النتيجة أنني فعلا اعيش يوما سابقا . فرويت لزوجتي تلك الليلة ، أثناء العشاء ، هذا الأمر
أتعلمين أنني أعيش يوما سابقا علي بقية الناس ؟ .
نظرتْ لي نظرة تحمل سؤالا ، فشرحتج لها بالتفصيل ، وبعد أن أنهيت قولي انفجرتْ في الضحك ، ففهمتج أنها أخذتْ الأمر مأخذ الهزل . فلم ألح ، فأنا نفسي أري أن الأمر لا يجصدّق ، لدرجة أنني بدأت أرتاب في حواسي .
خلال الأيام التالية ، ظللتج أركز وأتحقق ، وانتبهتج أن الأمر حقيقة لا محالة . فقد كنتج أعرف الأخبار قبل أن يعرفها الناس بيوم ، ورغم أن ذلك يبدو ميزة ، إلا أنه سبب لي الرعب أيضا . لقد رأيتج في جريدة الثلاثاء ، ثلاثائي أنا ، خبر وفاة أمي التي مازالت بالنسبة للباقين حية ترزق . كما رأيتج خبر نشوب حريق وقيام زلزال قبل أن يحدثا . وزرتج ابني في المستشفي بعد أن أصيب في حادثة سيارة قبل أن تقع الحادثة . لكنني أيضا رأيتج أخبارا سعيدة ، لكنني لم أستطع أن أسعد بها في وقتها مع الآخرين . وهكذا ، عندما فازت ابنتنا ، التي درست الطب ، بالتعيين في مستشفي كبير ، كان يجب أن أقاوم رغبتي في مهاتفة العائلة بأكملها لنشر الخبر .
بدأت أشرب الخمر . وذات يوم ، عندما كنت في بار ، بمفردي ، أتجرع كأسي ، فجلستْ بجانبي سيدة عزباء ، وبدأنا حوارا ، وبعد قليل اعترفت لها بمشكلتي . فأخبرتني أنها يحدث لها أمر شبيه بذلك ، فهي تسبق الناس بيومين لا بيوم واحد . كان هذا اليوم يوم الأربعاء بالنسبة لي ، ويوم الثلاثاء بالنسبة لبقية الناس ، ويوم الخميس بالنسبة لها .
اذن ، هل يحدث لقاؤنا هذا اليوم أم غدا ؟
اليوم بالنسبة لك ، والأمس بالنسبة لي .
اذن ، بما أنك في الغد ، احكي لي ماذا سيحدث .
اليوم سنذهب إلي السرير قالت . أنا أسكن هنا بجانب البار ، لكنك ستصاب بسكتة قلبية عندما تبدأ في خلع ملابسك ، وأنا سأحملك وأضعك في الأسانسير ، حيث سيجدونك هناك ميتا ، صباح الغد . والحقيقة أنهم عثروا عليك بالفعل . وجاءت الشرطة وسألونا جميعا إن كنا نعرفك ، فأنكرنا جميعا معرفتنا بك .
اذن ، علينا ألا نذهب لبيتك . قلت باستسلام وثبات ناتج عن الكحول .
هيا قالت لقد حان الوقت .
خرجنا من البار ، ذهبنا لشقتها ، الواقعة في البناية المجاورة للبار علي الناصية . وعندما بدأتج في خلع ملابسي شعرت بألم شديد في كتفي ، ما لبث أن تسرب لصدري . وعندما انتبهتْ السيدة لحالتي ، ألبستني جاكيتي ، وحملتني للأسانسير ، ورمتني هناك . وقبل أن أموت بلحظة ، استرددت احساسي الطبيعي بالزمن ، ورغم أنني قد مجتج يوم الأربعاء إلا أنني مازلت أعيش في يوم الثلاثاء .
ذهبت للبيت ، حبستج نفسي في غرفتي ، وشرعتج في كتابة هذا النص . ولا ألقي بالذنب علي أحد فيما حدث .
دقة مواعيد
كان لي خطيبة تكره الدقة في المواعيد ، وكان ذلك يبدو لها أحد عيوب البورجوازية . في تلك الفترة كنتج أصل دائما قبل موعدي بنصف ساعة ، ليس كرد فعل معاكس ، وإنما لمشاكل عقلية ، فقد كنت أعتقد أنني لو تأخرتج في مواعيدي ستحدث كارثة . بالأضافة لذلك ، فإن ميزة الوصول إلي المطار ، مثلا ، قبل موعدك بساعتين أو ثلاث يتيح لك الفرصة ، إن كنت قد نسيت جواز سفرك ، أن تعود للبيت لتحضره دون أن تفقد رحلتك .
لم تكن خطيبتي تفهم هذه التفسيرات ، بل وكانت تلومني بمرارة علي بورجوازيتي التقدمية في سنوات كانت فيها الطبقة الوسطي تنظر للطبقة الوسطي باحتقار . شرحتج لها حينئذ أنني أصل قبل موعدي لألقي نظرة من بعيد علي الناصية التي تواعدنا عندها ، لأتحقق أنه لا توجد حركات مريبة في المنطقة . فقد قرأتج روايات كثيرة لجون لي كاريه ، وعلمتج أن الجواسيس دوما ما يتخذون هذه الاجراءات الاحتياطية .
أتريدين أن يتحروا أين نتقابل ويعتقلوني ؟
لكنك لست جاسوسا لتفعل ذلك أجابت هي .
لا أحد يعرف هذه الأمور أجبتها أنا بشكل غامض .
يتميز الجواسيس بأنهم يستطيعون الإحساس بكل نوع من الوساوس ، بدون أن يلفتوا الإنتباه . فالعميل ، كما يقول الكتاب ، يجد نفسه مضطرا ، مثلا ، لترك فرشاة أسنان علي باب بيته عند خروجه ، ليتحقق إن دخل أحد إلي بيته في غيابه أم لا . وغير الفرشاة ، يمكنه أيضا أن يترك قليلا من الصمغ في ركن ما من الباب . ورغم كل احتياطاته ، يجب أن يحترس من حديثه في غرفة معيشته لأنهم ربما يضعون له ميكروفونات في حجم رأس الدبوس في أي مكان . وقبل أن يشرع في حديث حساس ، من المناسب أن يطل من نافذته ليتأكد أنه لا توجد سيارة في الشارع لها اريل هوائي في سقفها . وكل هذه الاحتياطات تعد قليلة .
ذات مرة ذهبت لطبيب نفسي ليعالجني من هذه العلل ، التي أخسر معها وقتي وأفقد فيها طاقتي . وحين رويت له كل شئ ، أكٌد لي أنني فعلا في حاجة إلي علاج ، لكنه عبٌر عن ذلك بطريقة لم ترق لي . وبالتالي ، عندما شرع في عمل ملفي وسألني عن مهنتي ، أجبته أنني جاسوس .
إذن فحضرتك تقوم بما يجب عليك . قد تحتاج علاجا لو لم تفعل واجبك .
هذا ما أقوله لخطيبتي !
وهل تعلم خطيبتك أنك جاسوس ؟
بالطبع لا . أتظن انني عميل مجنون لأحكي لكل الناس أنني أعمل في خدمة الاتحاد السوفيتي ؟ .
كان الإتحاد السوفيتي حينها موجودا ، وكانت مدريد تكتظ بالأحزاب الشيوعية وأحزاب العمال والأعلام الحمراء والصينيين والكوبيين وغيرهم ، بالاضافة للفاشيين التقليديين ومن علي شاكلتهم . وكانت الحياة غاية في الصعوبة ، ولم يكن في متناول يد أحد أن يتخلي عن هذه الطقوس الوسواسية حتي لا يبدو ضد الثورة ، أو بورجوازي صغير .
لقد كان وصولي مبكرا عن موعدي وعشق خطيبتي للوصول متأخرة ، أمرا يعكر العلاقة بيننا . حينئذ ، بلمحة كرم مني ، وحتي أرضيها ، أقسمتج لها أن أصل متأخرا عن كل مواعيدي ، أو علي الأقل عن مواعيدي معها . وبهذه الطريقة عادت المياه لمجاريها ، أقصد إلي مجاريها هي ، لأنها تركت مجراي حتي صار جافا .
أوفيت بوعدي خلال الأسابيع التالية في موعدين أو ثلاثة ، لكنني كنت اعاني من أفكاري الخرافية التي تصور لي أن العالم سينتهي كنتيجة لتأخيري . وسريعا عادت ريمة لعادتها القديمة ، فأصبحت أصل من جديد مبكرا ، وأختبيء في مكان قريب لأتظاهر بأنني وصلت في التو بعد أن أراها قد وصلت وانتظرت عدة دقائق . وذات يوم كنت مختبئا في مدخل بناية ، مراقبا منطقة اللقاء ، ورأيتها قد وصلت قبل موعدها بعشر دقائق ، حينها خرجتج من مخبئي ، وعندما ناديتها " يا بورجوازية " ، أكدت لي أنها جاءت مبكرا لتتأكد إن كنت أصلا متأخرا أم لا . وفي ذلك اليوم فسخنا خطبتنا ، لأسباب ايديولوجية ، في رأيها ، رغم أنني اعتقدت دوما أن إنفصالنا كان لأسباب نفسية .
بالأمس رأيتها في الشارع ، تصطحب طفلا في يدها ، وشعرت بوسواس يدفعني لأقترب منها وأطلب منها ان تغفر لي دقة مواعيدي في سنوات شبابي ، لكنني أدركت في الحال أن الوقت ، علي الأقل في رأيي ، قد تأخر جدا ، رغم أنه بالنسبة لها مازال ، ربما ، مبكرا جدا .