محمد أكويندي
إن تمثل جماعة الكولزيوم القصصي الرفض الحاد للتصنيف المؤسساتي لمكاشفة القص حتى لا يتقلص جدواه في حدود الوثيقة الجمالية التي تنعكس عليها تقلبات الواقع هو أمر أفضى إلى انفتاح حر على اتساع مدارك الخطاب في النص، بوصفه ظاهرة ثقافية لها مساربها الخاصة في الإفصاح والكشف،
بما يجعل إعادة طرح وتفسير ملامح التحديث في القص عبر إطار ثقافي ضرورة تحتمها رؤية تمزج العام بالخاص الحضاري الكلي بالتغيير الجزئي و الذاكرة النوعية و الوعي الكتابي بالوعي الشفهي..هذا التحول الدال في شكل الكتابة القصصية وشروطها الفنية ووظيفتها التي تحولت هي الأخرى من الرؤية التقليدية و النمطية و القص النموذجي إلى القص الحداثي الواعي رغبة التوسيع و الإضافة وخلخلت السائد و الثابت و استدعاء كل أساليب السرد ضروب الفنون الأخرى.
من هذا المعطى انبثقت تجربة الكوليزيوم كإطار ثقافي يتجاوز الفهم السائد بالظاهرة أو التيار أو المدرسة إلى آفاق أرحب لكي يتحرك كل فرد من أفرادها بالحرية التي تثري تجربته القصصية و الثقافية لاغناء المصب الكبير دون أن يتقيد بالرؤية الضيقة مؤمنا بحق الاختلاف داخل الإطار الخاص وكذا على المستوى العام هذا الفهم الخاص جدا هو شعار الكولزيوم الذي يعلن عن نفسه وذلك بعد استقراء كل تجربة على انفراد لأعضائها يتضح مدى تصريف تجاربهم المختلفة عن بعضها البعض انه أمر مقصود لغايته وذاته في آن..حتى لا يتحولون إلى جنود داخل ثكنة عسكرية بزي موحد هذا الإدراك الواعي يدفع الواحد منهم لبذل مجهود أكثر في الرصد و المواكبة وقراءة الكم المتواجد حتى يتسنى له/هم تجاوزه و إلا ضاقت الرؤيا قبل الإطار .
هذا الرفض الحاد للتصنيف المؤسساتي وإشهار التطرف التجريبي إلى أقصاه يبدأ بالاسم (الكوليزيوم) الذي في مجازه مكان الصدام و الاحتكاك كمعترك و هذا لا يكفي بل يحمل في طياته أكثر من دلالة قابلة كلها للتأويل : منها التجريب المتطرف ترويض النمرة /القصة قتل الابن لأبيه أو عقدة إسماعيل الإيجاز إلى حد التقتير و استدعاء الفن الاقلالي خدمة للقصة القصيرة جدا المحاكاة الساخرة حد التهكم وإهدار السياق الثابت و المستقر في اللغة..
تمثل بذلك قصة علي الو كيلي (الفصل 19) التي أبانت عن علو كعب صاحبها في فن كتابة القصة الساخرة و الهادفة إنها القصة المضادة للسائد المركون إلى الاستكانة و تخدير التلقي و تنويمه إذا كان القص كحالة من الأفراد و المجتمعات فانه قائم على جدل التفاعل بين القص من جهة و المجتمع من جهة ثانية باعتبار تباد التأثير و التأثر بينهما .. إن القاص علي الو كيلي اعتبره واحد من الموهوبين في الكتابة الساخرة التي تحسن الإنصات لنبض الشارع و مجريات الأحداث الثقافية و السياسية و الاقتصادية و السياحية مما يضفي على تجربته سلس الانتقال من موضوع إلى آخر و كذلك استدعاء كل أساليب السرد باستنفار أدواته الخاصة بمهارة فائقة حد الإقناع بأسلوب يتسم بالبساطة المقنعة بالعمق لملامسة الوتر الحساس ليعطي لتجربته مياسم الخصوصية و الاختلاف عن السائد من أشكال التعبير البسيط كالقصة الواقعية التي استنفدت جميع أشكالها الفنية .
على ضوء هده المعطيات فان قراءتنا لتجربة الكوليزيوم هي محاولة لاستقراء مختلف كتاباتها و مصادر تجربتها ثم تحليل ما تنهض عليه مكونات الأفكار التي تشكل مدار أسئلة مثنها الحائي وما قد تنفرد به من خصائص فنية تتجلى في لغة الكتابة و أسلوب الصياغة .(في حوار محمد أمنصور للقدس العربي ع.6031 أكتوبر 2008) يقول فيه :"تجربتي القصصية ذات النفس التجريبي المتطرف و أحاول اليوم أن اكتب في أفق التجريبي نفسه لكن باعتدال في أسئلة الذات و الواقع والمتخيل
والتراث هي ذاتها لكن غوايتي الأولى كانت دائما هي تجريب الأشكال و محاولة تطويع اللغة لمرجل الرؤيا".
هدا الإفصاح عند أمنصور قد مارس فعلا تحققه الفني في مجموعتيه "القيامة الآن" و "النسر والألواح" و ويتجلى بوضوح في المجموعة الأولى ولجوء أمنصور إلى الكتابة الشذرية هو تعبير بالشكل على تشظي الذات فبل جمالية النص كما تبقى الحكاية عنده ذريعة لتمرير الأفكار لا لتعضيد في المعمار في البناء القصصي بل لكسر هندسة الزمن التاريخي الممتد و المتصاعد الذي يعتني بتنظيم المواقف و الأحداث وفقا لترتيب حدوثها هدا التطرف" المعتدل" الواعي بالمفهوم التجريبي وقصدية اللعبة للقصص المضاد كما عبر (انريكي أندرسون امبرت) في مؤلفه القصة القصيرة النظرية و التطبيق إذا جاء في الحوار من باب التواضع طبعا انه لا يمارس التنظير من هنا ندرك أو نكشف عن زحف الكوليزيوم الصامت ..كصمت داء الكبد الذي لا يكشف عن أعراضه دفعة واحدة إلا بالتشخيص و التمحيص و الفحص الدقيق فهو يتوارى بأعراضه عن حب الظهور للعامة .
إذا كان علي الو كيلي يقلب تربة اللغة من عامية إلى بلاغة محدثة باستدعاء فن المقامة والخبر...الخ
فان محمد عزيز المصباحي يذهب إلى مفارقة غريبة في قتل الابن بدل العكس إنها عقدة إسماعيل هده الصرخة أو المفارقة أدلى بها لجريدة اليسار في حوار سابق .. قتلتنا الجثة أليست مفارقة غريبة تضمر علامة التعجب و التساؤل وتسخر منا بطرح أسئلة على أنفسنا: هل هو التمرد على القصة الشابة المتمثلة في الابن كجثة بلا روح فيها؟ .. هل هي قصة شابة وفتية بالسن و النوايا الحسنة فقط؟ عقدة إسماعيل أو قتل الأب مجازيا و إبداعيا يجعلنا ندرك عمق المقصود أن الكتابة الإبداعية فعل وممارسة لكي تطرح علينا سؤال قراءتها فإنها تنتج مظهر انفتاحها على التجدد في التلقي و التنظير وهدا ما يمنحها فتوتها وشبابها وحيويتها هدا الوعي بمفهوم الكتابة هو ما يدعم تحدي قصص محمد عزيز المصباحي ودفعه إلى قتل الابن الخامل في الاجترار و التكرار الممض دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتقصي وطرح الأسئلة الكبرى لجوهر الأشياء و التشكك فيها وفي قيمتها وحتى تسميتها (كالمدن مثلا) وحتى شخوصها ميتة كالدمى لا يأكلون ولا يشربون ولا يقضون حاجتهم كل هدا يبرز في روح قصص محمد المصباحي عكس ما جاء عند" إسماعيل"هده السخرية الوثابة تدلق لسانها الأحمر الساخر في وجه الادعاء فقصص محمد المصباحي لا تكتفي بهذا فحسب فهي تعبر عن عبثية الحياة والتمرد على القيم كما يبرز الفيلسوف القابع في أعماق المبدع و الأفكار النيتشوية التي أفرزت حالة فنية اتخذت السريالية وتيار اللاوعي مسارا لمحاولة اتباث تغيير القيم والبحث عن الحقيقة إلى (الفكرة الخطيرة) التي تظهر بجلاء الصرخة المدوية(قتلتنا الجثة)
استفادت تجربة محمد اشويكة القصصية من السينما في تحقيق بناء قصصي جديد كما استفادت من القص المضاد لنظرية الإبداع الجاهز والتوسل بشاشات الكومبيوتر واليوتوبيات لخلق النص التفاعلي كقصة( إحالات) التي أشاد بها الناقد سعيد يقطين في مؤلفه آفاق النقد العربي المعاصر" كتاب مشترك مع فيصل الدراج" وتقنية البناء السينمائي في تقطيع القصة وتحديد حركات شخوصها وأحداثها تبعا لعنوان اللقطة المستقلة وخلق ذات التناغم الداخلي بين عين الراوي للقصة والتركيبة السينمائية والحدث المروي في سياق زوايا لرصد حركات تتخلل عنصري السرد والوصف.
إن وقوفنا على عناصر هذه الفنون التي توسلت بها بعض قصص شويكة فهي لا تحد من طموحنا في استقصاء العناصر الأخرى لتجربته كتفتيت الحكاية وتعدد الضمائر واسطرت الأشياء وتملص اللغة من أكاديميتها إلى بلاغة العامة وان صح التعبير إنزالها من عليائها إلى بلاغة اليومي في لغته المشبعة بحمولة دلالية أكثر إيحاءا خدمة للنص وغاية الكاتب وأحيانا تبدو صادمة للمتلقي كما في قصة سوزان الغجرية..إن ما تتميز به كتابة اشويكة تتوسل كل شيء في الكتابة مما لايحد من آفاقها ولا يقف بالنظرية عند ذلك بل يتعداه إلى آليات السرد والقص في أنواعها المتعددة لتتلاحم مكونات النص في نسيج ذي لحمة بصرية وسمعية وقرائية.
إن توسل القصة بفنون أخرى ينطلق من قاعدة حجم النص وتغيره إن القصة هي التي تملي الطول المناسب لها القصة القصيرة جدا كنموذج..في زخم الكتابة في هذا النوع الأدبي..فضل محمد تينفو إن يكون استثناءا بتجربته مما حدا به اللجوء إلى الفن الاقلالي أو" المينيمالي"
يعرف كذلك بـ"فن الحد الأدنى" وهو اتجاه تعبيري في التصوير والنحت تطور أساسا بالولايات المتحدة الأمريكية خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي. في هذا الاتجاه Minimal-Art/ اهتم الفنانون باستخدام الحد الأدنى من الوسائط والعناصر التعبيرية، وكثيرا ما كانت تجريدية كالأشكال الهندسية والحروف المطبعية والأرقام المجسمة والأشياء الهامشية. أما في الصباغة، فغالبا ما تكون الألوان أحادية (مونوكروم) وفي النحت يكون هناك ميل نحو المواد المعدنية كالأسلاك والمقابض والمسامير مثلا.
وهو مصطلح مأخوذ من الفن التشكيلي ليرسم قصصه القصيرة جدا على أشكال هندسية بالكلمات بتقنية الاختزال والتكثيف المشبع بالدلالات التي تتجلى بها إن هذا الإحساس الجمالي تولد نتيجة ضغوط الواقع وانكساراته الممزوجة بالأسى كرد فعل على ما في الواقع من قبح وتدهور..انه احد الوسائل الممكنة إلى رؤية محدودة ومركزة والتعبير عنها بأقل الكلمات الممكنة إلى حد التقتير والشح..هذا هو ما أعطى لهذا الفن مصطلح الإقلال أو السلويت * نسبة إلى تسمية وزير مالي فرنسي سابق في عهد لويس الخامس (إتيان سلويت) الذي كان معروفا ببخله على رسوم لوحاته ونعني عنها فن الإقلال الذي توسلت إليه تجربة تينفو كما توسلت إلى لغة الشعر والأدب الشعبي والتراث إن تجليات هذه العناصر في الخفاء والظهور من كاتب إلى آخر..فان فرادة تينفو تكمن في البحث والتوسيع والإضافة إلى هذا النوع من القص القصير جدا الذي أدرك مدى اتساع هذا الجنس الأدبي لاستيعابه النادرة والنكتة والقصيدة الشعرية وما من شانه إعلاء بلاغة الحذف و الوعي في تحقيق سمات هذا النوع تشبته بالعنصر السردي بوصفه الجوهر الأول لتحديد نمط البنية القصصية القصيرة جدا.
تبقى جماعة الكوليزيوم احد مختبرات الكتابة السردية بالمغرب وفق برنامج عمل يستوجبه كما اقر احد أقطابها محمد أمنصور في مؤلف مشترك (الرواية المغربية أسئلة الحداثة في ص.245 دار الثقافة) "انه برنامج عمل يستوجب رؤية فلسفية وخلفية جمالية عالية وتكوين ثقافي رصين وحس إبداعي مرهف وقدرة حقيقية على الحكي وولوج مختبر الكتابة السردي من أوسع أبوابه".
ليس غفلا تخطيت فوزي بوخريص ولكن لم اقرأ له بعد مجموعة قصصية -كما أغفلت مصادر أخرى في ديباجة هذا المقال- وتأكيدا لما جاء حول جماعة الكوليزيوم القصصي فهي تتأبى عن تكرار ما سبق من ظاهرات أو تيارات أو مدارس لتأطير الرؤية الموحدة تمهيدا لتنظير قصصي كان أو فلسفي على غرار ما عرف في هذا الاتجاه فهي تنأى بنفسها بعيدا حتى يخيل للمهتم والمواكب أنهم مثل جزر تمسي بالتلاقي وتصبح بالتفارق عند كل ملتقى أو تظاهرة ثقافية .. ما يؤكد حضورها الفعلي انتظام إصداراتها.
تعريف:
* أصل كلمة "سيلويت" يعود إلى ما اشتهر به وزير المالية الفرنسي إتيان سيلويت من بخل في عهد لويس الخامس، حيث عرف بانتقاصه للمصروفات والرواتب إلى أدنى حد. كما كان يزين قصره بلوحات ورسومات ظلية كان ينفذها بنفسه على سبيل توفير شراء لوحات زيتية، الأمر الذي دفع الكثير من الفنانين – من باب الدعابة والسخرية- إلى إطلاق إسمه على هذا النوع من الرسم الاختزالي والإقلالي (الصور المنتقصة) الذي لا يتضمن سوى الحد الأدنى من التفاصيل والجزئيات.