محمد اكويندي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

محمد اكويندي

مرحبا بكم في منتدى محمد اكويندي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الجسد بين التراث والحداثة(6)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد اكويندي
Admin
محمد اكويندي


عدد الرسائل : 164
تاريخ التسجيل : 22/12/2006

الجسد بين التراث والحداثة(6) Empty
مُساهمةموضوع: الجسد بين التراث والحداثة(6)   الجسد بين التراث والحداثة(6) Icon_minitimeالسبت ديسمبر 01, 2007 1:30 pm

هذه الشخصية تتماهى مع الموقف الفكري العام الذي يسم النص؛ تمد جذورها في التراث، في تراث منتقى، مصفى، فتتحاشى الرطانات والعجمة التي لا يسلم منها بعض أدبائنا المعاصرين، وفي أن تتحرر منه، لتبدع أسلوبًا شخصيًا عصريًا يهز القلب والفكر بجماله، وهذا ما أصفه بالكلاسيكية العصرية [22]. لا مجال هنا للقيام بمسح شامل لأسلوب الكاتب /الراوي، ولذا أكتفي بالإشارة إلى بعض السمات الرئيسة.

تتسم الجملة عادة بالسلاسة والانسياب، فتتجنب التراكيب المعقدة وتقل من حروف العطف والربط فيما هي تكثر من استعمال الحال (والنعت)، مفردًا وجملة، مما يذكر بمنحى كثيرًا ما يعتمده طه حسين في كتاباته السردية [23]، منها:

إنني أنظر حولي فأجد أمتنا وقد خسرت أولادها وآخرتها وضيعت دينها. آراها انهمكت تطلي وجهها بالألوان، تعوج لسانها بالرطانات، تقمط نفسها بأنواع الثياب وتترقص في ألوان الأزياء ذاهلة عن نفسها مفتونة عن حقيقتها. - ص 80.

من رائعة النهار ملأ قلبي رنين نحاس الساقي، أكوابه تتدلى مصطفقة من سلاسل تقسم صدره، بريق عينيه شرط وارد على ابتسام ثغره. - ص 48.

هذه السحب حقولي، في أديمها تسرح السكك والمدقات. ومطيتي حمارتي، قلبي موصول بقلبها، تمشي، تصفق بحوافرها تراب السكة وأنا أهتز على إيقاع سيرها وأغني. - ص 47.
وإن استعمل - في هذا السياق - العطف فلتفصيل وتحديد يأتي بدون عناء:

واحكي لي كيف سخرت لنفسك الشمس والريح، فاستولدتهما الظل والنسائم، تطرين بها الأروقة والأزقة والزنقات، في نظام من الرقة والوسامة والقسامة والرصانة، مداره انقسام الكبير إلى أصغر منه وتفرع الفرع عن أصله، وانتشار العمار على المساحة في جلال لا يؤرقه تدافع ولا تزاحم ولا لهوجة. - ص 49.
كما يتسم بنمط من الإيقاع يضفي على النص موسيقى يعذب وقعها على الأذن دون أن تصبح تكرارية. يتأتى ذلك أحيانًا من الميل إلى استعمال الجمل الاسمية، مستقلة أو في موقع حال أو صفة، تارة حسب ترتيبها الطبيعي (كما يبدو من المقاطع السابقة)، وطورًا متقدمة الخبر:

كان جالسًا قدام جدار المسجد، عليه وسمة السن والمعرفة، وخلفه مصفوفة وقدامه مفروشة كتبه. – ص 50.
كما يتأتى من اللجوء إلى التماثل في الجمل، يزينه أحيانًا سجع أو جناس غير متكلف، منها:
أنا لا بد في حضنك، تسفي علينا الرياح رمالها وتعوي حولنا الصحراء وحوشها، بليت الجدران وما طمست نقوشها وتهرأت الصحائف وما امحت كتابتها. - ص 49.
وهنت حتى غشي على البصر وكادت تطلس البصيرة. - ص 48.
وإن كان الراوي يلجأ في بعض الأحيان إلى تفصيل لا يخلو من الإطناب، فإنه - وتلك سمة أسلوبية ثالثة - كثيرًا ما يحسن الإيجاز:
وجدتهم في انتظاري، أخذوني إلى صدورهم، واحدًا بعد واحد. قدموا لي الماء فاغتسلت وعزموا بالقهوة فشربت. جلوس والود هو الود، منذ خمسة عشر قرنًا والدفء هو الدفء. - ص 47.
أما المفردات فإنها، فعلاً كانت أم اسمًا أم نعتًا، تتسم بالسهولة - إلا فيما ندر [24]- وخاصة بالدقة، بحيث أنها تنزل في الموقع المناسب لها إنزالاً، فيتعذر عليك أن ترى بديلاً لها، وهذا ما يصفه يحيى حقي بـ"الحتمية" [25].
هذه الكلاسيكية المصفاة تقترن ببعض العناصر التحديثية. منها بعض الصور المبتكرة المقتبسة أحيانًا من المخيلة الشعبية، أمثل عليها بهذا المقطع:

وكانت زبيدة بعد طفلة تلعب في حارتنا. قلت في نفسي: هذه هي، وهي لي، وأنا الحويط. أنا قاعد لها حتى يطيب قطافها فلا يسقط إلا في حجري. - ص 68.
وتبدو الظاهرة نفسها في هذا العبارة:

يازبيدة، منديلك عمامتي [26]. - ص 73.

ومن هذه العناصر أيضًا بعض الصور المبتكرة، التي لا علاقة لها بالمخيلة الشعبية، فكلمة كبرياء، مثلاً، تكتسب في هذا النص معنى يفيض عن المعنى المعجمي، ليحيل إلى موقف شخصي وثقافي من الكون. يصف استقبال الأصحاب له في فاس قائلاً:

ذلك هو كبرياؤنا، كبرياء موزون مقفى. - ص 47.

وفي حديثه عن الكتاب يقول:

أقرأ فيه سطور كبريائي. - ص 80.
ومن هذه العناصر أخيرًا، تصرفه بأوزان الفعل، على نحو طريف، يضفي على الجملة بعدًا آخر. فكمال العاشق يقول لحبيبته: "أترحل فيك" - ص 72. ففعل ترحل الذي يأتي، حسب لسان العرب، بمعنى ارتحل يفيد مغادرة المكان، الانتقال منه وليس التنقل فيه كما هو مقصود هنا. وكذا القول في فعل ترقّص الذي يرد في النص بينما المعروف هو تراقص. ص 79.

وهكذا فإن هذه الكلاسيكية العصرية، التي تتمثل عبقرية اللغة كما تبلورت عبر التاريخ (لا خيار آخر للكاتب الحقيقي) لا سعيًا لتقليد تراكيبها وتكرارها كما هي بل لتوظيفها طليقة في التعبير عن الـ"هنا والآن" بكل متغيراته، تشير هي أيضًا إلى المشروع التحديثي الذي يضطلع به الراوي.

إن هذا العمل على هناته يمثل إنجازًا أدبيًا قيمًا. قد لا يرضي الحداثويين (الداعين إلى حداثة مستوردة جاهزة للاستعمال) ولا المتزمتين (القيمين على نص التراث الديني يحرسونه كما يحرس السدنة صنما لا حياة فيه). فقد يأخذ عليه الأولون لجوءه إلى متخيل قديم متلبس لغة تراثية (التناص) لا تتماشى ومتطلبات العصر ولا الدعوة التي يدعو إليها. وقد ينعي عليه الآخرون إقحام القدسي في أمور دنيوية نسبية لا تؤدي إلا إلى ابتذاله. لكنه، بسبب من المسافة التي يتخذها من النص المقدس (تأويلاً) ومن الفكر الحداثي، فيما هو يستنبطها ويحاورهما بجدية وحنان، يمثل أجمل.نشودة لكل منهما. يجمعهما بجدلية ماهرة أنيقة لا تخلو من المكر لينفذ إلى أعماق القارئ المتجذر في تربة ثقافية محددة والصابي في آن إلى إضفاء الشرعية على موقف تحرري من الجسد لا امتهان فيه، فيقنعه بأن العلاقة الجسدية، الجنسية، إذا ما أحسن فهمها، قد تكون المعيار لموقف سليم من الآخر (المرأة أو الرجل)، ومن الثقافة (أسلوب القراءة والتعبير عن أعمق ما في إنسان بفن راق) والتنظيم الاجتماعي (مؤسسات سياسية، مهنية، إلخ) والسياق المادي للحياة (البيئة، المعمار المديني، إلخ). وفي ذلك إبداع فني ناجز، تبدو فاعليته جلية إذا ما قورن بالأسلوب التعليمي التلقيني الذي اعتمدته كتابات كثيرة منذ أوائل النهضة [27] أو بالأسلوب "الثورجي" الداعي إلى كل جديد دون تمحيص وخاصة دون تجذيره في تربته الثقافية الجديدة [28]. فإن عملية التحديث - وهي الآن ملحة أكثر من أي وقت مضى – عملية جدية لا تتحقق بالموقف الإيدلوجي العقلاني المحض ولا بالتقليد الأعمى، إنما تنطلق من "الخاص الخاص" لإغنائه بـ"العام العام" (الإنساني الشمولي)، حسب تعبير يحيى حقي، وباعتبار كافة ملكات الإنسان المتجذرة في تراث محدد. وهنا يجب أن يلعب التراث - برموزه الدينية والأدبية - دوره في عملية الانطلاق والتحرر [29].

بهذا المعنى نستطيع أن نقول إن قصة عبد الحكيم قاسم هذه أنشودة مهداة للرموز القدسية وللتراث الأدبي بقدر ما هي ترنيمة في سبيل إنسان متحرر متصالح مع نصفه الآخر ومجتمعه وبيئته ومنفتح على كافة الآفاق الثقافية.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://mohamedgouindi.kanak.fr
 
الجسد بين التراث والحداثة(6)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
محمد اكويندي :: التصنيف الأول :: دراسات أدبية-
انتقل الى: