2. 1. 2 المعراج صعودًا
من بؤرة الضريح يجتاز كمال المرآة ليلج عالم الأصول، عالم الحقيقة، متلبسًا صورة سميّه وصنوه كمال، مؤلف الكتاب. هناك يلقى جماعة الأصول كما هي، بتعدد وظائفها واتجاهاتها ومراتبها، وترافقه في رحلته هذه زبيدة المرآة (التي تتعدد أجيالها تعدد أجيال كمال). إنها الجماعة المثلى، وأكاد أقول، باستعمال مصطلح أفلاطوني، إنها جماعة عالم المثل. ورحلته تقابل رحلة الرسول عبر السماوات السبع ومعه جبريل، حيث يلتقي كافة رموز العالم الآخر الأصلية على اختلاف درجاتها ووظائفها، من عزرائيل ثم إسماعيل وزكريا (السماء الأولى) /رلى ملائكة ليلة القدر وداود وسليمان ويوسف (السماء الثانية)، فإلى إينوخ وألياس (السماء الثالثة)، ثم إلى هارون (السماء الرابعة) وموسى (السماء الخامسة) فإلى إبراهيم الخليل (السماء السادسة).
وأخيرًا آدم المستند إلى بيت المعمورة، أورشليم السماوية (السماء السابعة) حيث يبلغ سدرة المنتهى. الرحلة في عالم المثل تقابل الرحلة في عالم السماوات السبع، وإن اختلفت الشخصيات فالمضمون والرمز واحد: العالم المثالي الحقيقي.
2. 1. 3 الرؤيا أو السماء الثامنة
عند السماء السابعة يفترق الرسول عن جبريل ليستأنف طريقه صوب العرش (السماء الثامنة) حيث يملي الله عليه أحكام دينه. ويقابل ذلك في قصة ما رآه كمال المرأة في حلمه إذ صعد الملك بالروح (روح كمال) مخترقًا السماوات السبع إلى قدام العرش - ص 64. لم يتوقف عند السماوات الأولى - فلها ما يقابلها في ما يعيشه في عالم المرأة - بل بلغ مباشرة منتهى السماوات حيث ألقيت إليه أحكام الله في ما يتصل بالذكورة والأنوثة. اكتمل العلم وتأصل، عند أم الكتاب، اللوح المحفوظ. ومما يثير الانتباه أن كمالا هذا بلغ العرش وحده تاركا زبيدته (زبيدة المرأة) في عالمها، كما افترق الرسول عن جبريل. ومن باب الاختلاف ذي الدلالة أن الرسول يواجه العرش الله في وحدانيته (وإن كان هناك ميخائيل منشغلاً بوزن الماء) بينما لا يرى كمال قدام العرش إلا زبيدته السماوية ومعها يحيا كما ينبغي أحكام الله في الذكورة والأنوثة. كما أن هناك اختلافات أخرى اقتضاها منطق القصة، منها أن الحوريات حسب المعراج لا يقمن أمام العرش ولكن فى سماء أدنى، بينما حورية كمال قائمة فى السماء الثامنة.
2. 1. 4 المعراج هبوطًا
يعود كمال أدراجه من معراجه على مرحلتين. في أولاها يلقى زبيدة المرأة ثم يصنف كتابه حيث يسمي الأشياء بأسمائها – ص 67 فتقرؤها زبيدة وتؤمّن عليه. وفي ثانيهما يهبط إلى غرفته في فاس حيث يلقى تلك الصورة المزجية من زبيدة الزوجة وزبيدة فاس، مما يتيح له أن يستعرض تاريخه الشخصي وتاريخ سلالته منذ أن جاء جدنا الكبير من الشرق على ناقة سمراء – ص 70 حتى ساعته الراهنة، ليؤكد أنها مطابقة للأصول ولما تلقاه من الأحكام السماوية رغم صروف الدهر. وهذا الشوط يقابل الشوط الذي قطعه النبي بعد أن غادر العرش.
ومن اللافت أن النبي يجتاز من جديد السماوات السبع ومن بعدها جهنم حيث يرى ما أعد الله للأشرار. فهل في هذا المزيج من حياة النعيم والجحيم صورة لما يخبره الراوي من تاريغ السلالة الذي يتبطن فيه الشر الخير في كل لحظة ؟
ويتم الهبوط. فيلقى كمال أصحابه في جامع القرويين حيث تطلع عليه فاطمة بنت محمد الفهري، كما أن النبي يلقى جبريل ومجموعة الأنبياء في هيكل سليمان.
2. 1. 5 الإسراء إيابًا
ويعود كمال إلى مدينته ممتطيًا الأثير، ملى متن طائرة، كما يقفل النبي عائدًا إلى مكة بسرعة البرق على ظهر البراق. وكما يواجه النبي عداء قريش بأسئلتهم التعجيزية عن صورة بيت المقدس وعن موضع قافلتهم إلى الشام في تلك اللحظة، كذلك يلقى كمال شديد العناء من أصحاب الحكم وأعوانه لدى هبوطه في المطار. والكتاب، يرفضه النظام القائم فيصادره لمخالفته الأحكام والأعراف تمامًا كما تشيح قريش بوجهها عنه لمعارضته قيمها التقليدية. وكأن رأس النظام في تلك المدينة، المتمثل بـالرؤساء الفجار – ص 81، صورة عن أبي جهل الذي يستثير قريشًا ضد النبي. كمال كما النبي يعود إلى عالم الترح والعناء.
ونرى تماثلاً آخر في موقف النساء في كلا النصين. فالنبي يلقى أول من يلقى النساء: أم هانئ ثم عائشة وفاطمة، يؤمنّ برسالته ولكنهن يحاولن ثنيه عن مواجهة قريش فيما يبدين إعجابهن برباطة جأشه. وكذلك كمال تستقبله زوجته زبيدة وتؤمن بكتابه دون أن تقرأه ولكن في قولها ما يشبه العتاب والدعوة إلى الاحتراز مع تقديرها لتصميمه:
آه يا حبيبي، ما أقواك في ذلك وهزيمتك! - ص 82.
ويبقى على النبيين أن يواجها الناس برسالتهما، المتحققة يوما لا محالة.
2. 2 البنية الأدبية أو التناص التراثي
إلا أن التناص المعراجي لا يستنفد كل أنواع التناص التي تعتمل هذا النص، إذ نجد مرجعًا تناصيًا آخر خارج الإطار الديني، هو التراث الأدبي، يوظفه العمل الأدبي الذي بين أيدينا بطريقتين:
2. 2. 1 التناص النوعي الثانوي أو كتب الباه
بموزاة النوع الأدبي المعراجي، يلجأ الراوي إلى نوع أدبي آخر، يتمفصل على الأول ليكمل الصورة التي يسعى إليها، هو النوع الإيروسي الذي يمثل له كتاب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه. والقصة التي نحن بصددها الآن تتبنى كثيرًا من مقوماته. أولها العنوان.
فالعنوان الرئيسي يقتبس على نحو ناقص عنوانا للقصة: رجوع الشيخ ...، وعناوين بعض الأبواب (الباب الأول في ذكر مزاج الإحليل، الباب الثاني في ذكر مزاج الأنثى، الخ...) تستوحى لتسمية بعض المقاطع (في ذكر مدينة فاس، في الحزن). وثانيهما اسم المؤلف:
"الفاضل المولى أحمد بن سلمان الشهير بابن كمال باشا" الذي يتحول إلى كمال، وهو إشارة إلى الجزء الأهم في التسمية، فضلاً عن معناه الاستعاري الواضح المحيل إلى مفهوم الكمال[14].
ويتصل باسم المؤلف طبيعة الراوي: فالراوي في كلا الحالين رجل، وبالتدقيق رجل علم وأدب.
وثالثهما الشخصيتان الرئيستان: فالشيخ والجارية - أو كمال وزبيدة - يحيلان إلى الرجل والمرأة الذين يتحدث كتاب ابن كمال عن مغامرتهما في عدد من القصص، غالبًا ما يكون الرجل فيها كهلاً والمرأة جارية.
وتجدر الإشارة إلى أن المرجع الثاني للتناص النوعي (كتاب ابن كمال) مكمل للمرجع الأول (كتاب الإسراء والمعراج) بمعنى أنه ثانوي بالنسبة إليه. يبقى الأول النموذج الأساسي الذي يهب الحدث أبعاده الكبرى من خلال ما يضفي عليه من سياق متميز يتصل بالماورائيات، بينما الثاني يرفده بالموضوع، علاقة الذكر والأنثى، إلا أن الموضوع بحد ذاته مبتذل عادي، وقد يسف إلى درجة الحيوانية في كثير من الأحيان. غير أن ما يجعل منه معيارًا أساسيًا، بل وتأسيسيًا، لرؤية جديدة للإنسان، إنما هو اندراجه في سياق المرجع الأول، وهنا تكمن عبقرية هذه القصة.
2. 2. 2 التناص مع المرجع التحتي
غير أن هناك تناصًا من نوع آخر يدخل في ما يسميه جينيت hypertextualité، حيث يميز ما بين نص فوقي hypertexte هو النص الراهن، ونص آخر تحتي hypotexte يطفو على سطح النص الفوقي من خلال تعابير وإيحاءات ومفاهيم خاصة به. أو، بتعبير آخر، يقوم النص الراهن (الفوقي) باستمداد عناصر من النص السابق (التحتي) يغتني بها ويوظفها في مشروعه الخاص[15] . والحقيقة أن هذا النص التحتي متعدد، إنه نصوص وليس نصًا واحدًا، أو إنها أساليب نصية تجمعها بعض الخصائص المشتركة، مثل التسجيع والتماثل في بعض المقاطع، وشيء من الجناس والطباق في الكلمات، والإيجاز في بعض العبارات يقابله أحيانًا إطناب وتكرار يفيدان الإيقاع أو التأكيد؛ وتفرقها سمات ينفرد بها كل نص حسب نوعه الأدبي. ومن أهم هذه الأساليب النصية، تشير إلى:
التراسل الذي تفتتح به القصة:
أما بعد، فإننا عقدنا العزم على أن نسلم قلوبنا للمناسك المبرورة ]...[ فشد رحالك إلينا... - ص 45.
الخطبة كما ترد مثلاً في خطبة مولاي إدريس:
اللهم إنك تعلم ما اردت ؟ ؟ ؟ ؟ المدينة مباهاة ولا منافرة ولا سمعة ولا مكابرة. إنما أردت أن تعبد فيها، ويتلى كتابك، وتقام حدودك وشرائع دينك وسنة نبيك ما بقيت الدنيا - ص 52.
وفي هذا النص من التشابه مع الخطبة التقليدية على المستويين المعجمي والأسلوبي ما يوحي للقارئ بأنها محض اقتباس[16]. وتكرار الخطبة في نهاية الحج في حديث الوداع.
ترجمة الأعلام، كما ترد في تقديم ابن كمال:
هو عالم الدهر وواحد العصر، بهجة الناظرين وترجمة حجة المناظرين، من فن التكلم كما شاء، الفاضل مولانا أحمد بن سلمان، المشهور بكمال. ولد لسبعة سنين خلون من شهر ]...[ كان الأب رجلاً ضئيلاً ]...[ وكانت الأم امرأة دقيقة - ص 52 و53 [17].
ونجد الأسلوب نفسه في التعريف بمولاي إدريس.
القص وهو كثير، نشير منه إلى المقطع الذي يخبر عن ابن كمال:
وذات ليلة، نام الرجل على ذراع زوجته غرارًا، وهي جنبه يقظانة تتأمله وتتحسس بأناملها أسارير وجهه – ص 53.
النص الصوفي الملاحظ في أسلوب السؤال والجواب بين المريد وشيخه، كما يبدو في الحوار ما بين الراوي وبائع الكتب:
قلت له: سيدي، إن تجاسرت فاغفر لي، وإن جهلت فأوسع صدرك وقل لي ما بائع الكتب؟. قال: إنه عبد موكول بالأفئدة، إن قررت وإن تحيرت، يريد أن يكون بالكلم الهدى. قلت له: سيدي، نور الله قلبك، قل لي عن الكتب. قال: ياولدي، الكتب دنيا ليست الدنيا، ولا هي شبهها، بل هي المجاهدة في مذاكرة أسرارها ]...[ قلت له: ويا سيدي، أطل حبال صبرك وعلمني، ما القراءة؟. قال: ياولدي، القراءة أن تندهش عن الحال بما هو حال. إنك إذن تملك الوقت، وذلك هو الفضل. - ص 51. [18]
التأريخ للأحداث الجارية، كما يبدو في المشهد الختامي في جامع القرويين:
رأيت تطل فاطمة بنت متمد الفهري، وعلى يمينها الأمير يحيى بن إدريس، وعلى يمينه القاضي الكناني، وعلى يمينه السلطان مولاي سليمان. – ص 74.
أسلوب الفقهاء والمفسرين، ويتردد في أماكن شتى، منها وصف زبيدة المرأة للكتابة:
اقرأ، وهي من الكلمات المعجزات، اللواتي تحار في فهمهن العقول والألباب ]...[ الكاتبون موكولون بتحريرها على مثال موهوم غائب، وكلما ازدادت جودة المثل، ازدداد قربه من المثال في دأب لا ينتهي، حتى تجف الأقلام وتطوى الصحف. – ص 63.
وكذلك قول زبيدة عن الجنة:
وحاصل ذلك رد الخلق إلى لحظة واحدة، هي ميلاد جديد من رحم جديد. - ص 65.
الإيقاع الشعري الذي تشير إليه تفعيلات البحر الطويل ومجزوء الرمل الذي يذكره الراوي وهو في الطائرة وكذلك بعض الجمل التي تأتي على تفعيلات بعينها.
هذه الأساليب التناصية تضفي على عالم القصة شرعية أخرى تنضاف إلى الشرعية الدينية التي يمنحها المنحى المعراجي. ولكن الغريب في الأمر هو أن أسلوب كتب الباه لا يعتمد أساسًا للتناص في هذه القصة إلا ما أتى منه اقتباسًا صريحًا كما ورد في طلب زبيدة من الراوي أن يقرأ لها الباب السابع والعشرين في المحادثة والقبل والمزاح - ص 74 [19]. ولهذا دلالته البالغة الأهمية إذ إن عالم القصة الفكري وسياقه الروحي بعيدان أشد البعد عن تصور هذه الكتب، وهنا تكمن فرادته، وذلك ما نتقصاه من خلال تحديد الانزياح الحاصل بينه وبين الترات.
3- الانزياح، أو الجسد بين التراث والحداثة