محمد اكويندي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

محمد اكويندي

مرحبا بكم في منتدى محمد اكويندي
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الجسد بين التراث والحداثة(3)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
محمد اكويندي
Admin
محمد اكويندي


عدد الرسائل : 164
تاريخ التسجيل : 22/12/2006

الجسد بين التراث والحداثة(3) Empty
مُساهمةموضوع: الجسد بين التراث والحداثة(3)   الجسد بين التراث والحداثة(3) Icon_minitimeالسبت ديسمبر 01, 2007 1:09 pm

1. 2. 2 سيرة كمال
كمال هذا، مؤلف الكتاب، متجذر في التاريخ، إذ إن له ترجمة كاملة في كتب المؤرخين يلمح إليها النص بوضوح، غير أنه وجه فذ يكتسب هنا من البدء ملامح النبوة، أو أقله ملامح الولاية. فكما يجري للأنبياء عادة، تزف ولادته مسبقًا للناس، فيبشر بها أبوه (واسمه أيضًا كمال، كما أن أمه تدعى زبيدة، لئلا تنقطع السلسلة)، في الحلم، ثم يتيتم ولما يتجاوز العام، ثم يعيش حياة متميزة. وإلى ذلك، يبقى "أميًا" أسوة بنبي الإسلام، إلى أن تسنى له أن يكتسب العلم وحيًا.
وترتبط سمات النبوة بالأنوثة والجسد. لم يتأدب في الكتّاب بل في "الحريم حيث تعمل أمه "بلانة". مقاصير الجواري كانت له أفضل مؤدب، لم تعلمه القراءة والكتابة بل وهبته من العلم ما لم ينطو عليه قلب بشر أبدًا - ص 52، وهبته العلم بالمرأة. من خلال جسدها، يتعرف على عواطفها وأحاسيسها ودنياها، فتملأ الأنوثة عالمه بحيث أنه تمثل الأنوثة وتبطنها لتصبح مع الرجولة عنصره الآخر. أُلبس ثياب الجواري ليبقى في الحريم. عاش الأنوثة من الداخل، كما تحياها أية امرأة، وفي نفس الآن مارس ذكورته، لا شأن سيد يريد حريمًا بل غواص يريد قرارًا -ص 59. تكتمل ذكورته من خلال أنوثته، فتصبح:
ذكورة وسيمة، ناعمة، ملفوفة في الحرير، مكحولة ]...[ تمتع ولا تذل، تدعر ولا تدنأ، تقحب ولا تسفل، تنفذ ولا توجع، تطلق أنوثة الأنثى محبورة، مزدهية بنفسها - ص 59.
رجولة مثالية متناغمبة مع الأنوثة المحض.
بالرغم من غرابتها، بل بسبب غرابتها، تتناغم هذه التجربة مع الموقف الديني. فكمال يحياها كمن يتعلم القرآن:
هذه دنيا كمال، وقد عرفها كما يعرف الحافظ قرآنه؛ يرتل آياته ريعتبر عبره ويعقل حكمه – ص 58.
وعلى كل حال فإنه يخوض هذه التجربة بفضل اصطفاء إلهي:

وهكذا فإن كمالاً اصطفاه الله وعلمه وأفهمه وهيأه لمهمة هو مقدرها لتتم إرادته في ملكه – ص 60.

1. 2. 3 سيرة زبيدة
كمال آية بين الرجال، وكذلك زبيدة بين النساء. مكتملة الأنوثة، تتسم بأجمل مزايا المرأة الجسدية والعاطفية، ناهيك عن السلوكية التي تتجلى في تدبير المنزل ورعاية مجالس الأنس، بحيث أصبحت دارها عش قلب صاحبها - ص 61، إلا أنها تقرن بهذه المزايا قدرًا من العلم قلما تبلغه النساء، يقربها من مرتبة الذكورة. تتقن علوم اللغة والغناء والعزف، وتتجاوزها إلى علوم الدين والمنطق والأدب والأخبار. إنها صنو لكمال، يتكاملان كل بالآخر، ولكن على نحو طريف: تزيد أنوثته من أنوثتها فيعلمها كيف تتألق جسديًا، وتضيف ذكورتها إلى ذكورته فتعلمه ما يكون عادة وقفًا على الرجال: القراءة. هذا العلم الجديد الذي يقتبسه منها يجعله يولد من جديد فإذا به كآدم يسمي الأشياء من حوله لأول مرة:
نظر كمال في الأشياء من حوله فسماها بأسمائها، ثم إنه عدّها ثم نسقها أنساقًا ... إذاك أدرك كمال جوهر روحه وعرف الكبرياء الحق - ص 63.
علاقة كمال بزبيدة علاقة الند بنده، لا عبد ولا سيد، أو بالتناوب عبد وسيد، يتمثلان ما يميزهما وينجزان ملء التكامل بينهما، فلا ملء إلا بالجسد ومن خلال الجسد. ذلك ما يضطلع كمال بالتبشير به، رسالة إلهية:
يا كمال، إنك عرفت الحب وعرفت القراءة، وهذان هما العدة لكل مهمة جليلة فاخرج إلى الناس وتحدث عن لواعج الشوق - ص 64.

1. 2. 4 أصل الكتاب أو السجل الإلهي
تبدأ مرحلة الدعوة، ويخرج كمال حاملاً رسالته إلى قوم يعيشون حياة سعيدة متناغمة، يجمعون فيها ما بين الرغبة والضرورة، يقرنون الجد باللهو والسعي اليومي بالابتكار، متجاوزين كافة التناقضات والقيود المصطنعة"
قلب كمال منذور لهؤلاء الناس، لأمة متاجرة، صانعة، محاربة وشاعرة وعاشقة، تعز عنقاء سرها عن القنص والمطاردة – ص 65
وتكتسب هذه الرسالة شرعية دينية مطلقة بفضل حلم يراه فيما يرى النائم ينقله إلى الجنة، إلى قدام العرش عبر السماوات السبع - ص 64. فتستقبله حورية "لو أن الله استغنى عن خلق السموات والأرض بخلقها لكان ذلك شاهدًا على ربوبيته – ص 65، تعرّف من ملامحها على زبيدة. أهي الأم؟ أهي الزوجة؟ سؤال نافل. فالذكورة والأنوثة هنا، في عالم الفردوس، مصفيان من كل علاقة نسب أو سلالة أو ثقافة. الوصال الحق هو وصال الجسد، وبه تتحقق كل علاقة روحية. ووصال كمال بزبيدته هو النموذج المطلق لكل علاقة. إذ أن الحكمة الإلهية تتجلى في العلاقة الجنسية المكتملة. مشيئة الله في اكتمال الجسد:
عند ذلك تكون حكمة الله في خلقه،التي أراد أن يكون شقاها الذكورة والأنوثة والتي أراد لها أن يكون العشق متاعًا فردوسيًا في جنة الله" - ص 65.
بذا تكتسب رسالة كمال شرعية إلهية، فإذا به بني تناط به مهمة التبليغ بهذا المبدأ التأسيسي، وفق الإرادة الإلهية:
"هل قُدّر لكمال أن يكون نبي هذه اللحظة وكاهنها في أمة عهد الله لها بحكمته؟ - ص 66.
ويؤدي مهمته تلك بتدوين ما كشف له في كتاب هو الكتاب، يعلن للملء أن:
الذكورة والأنوثة هما شقا الحقيقة الإنسانية واجتماعهما الباه الذي هو معنى المعاني وحقيقة الحقائق – ص 67.
فكتابه هذا صورة عن السجل الإلهي.
يعود كمال إلى زبيدة بعد رحلته السماوية ليسلمها الكتاب، ولكن بعد أن ينفذ كافة رسومه في علاقة حميمة معها، يكون كلاهما فيها العبد والسيد، ويجيب فيها على أسئلة أنوثتها بلا بقية – ص 66. تتم زبيدة قراءة الكتاب الواقع في واحد وثلاثين بابًا وتقدمة وخاتمة – ص 67 [9]، بأقل مما لزمه من الوقت لكتابته. فكانت أولى المؤمنات به: سيدي، ألا إنك بلغت وقلت في أمر الشوق كلمة فصلاً لا ضلال بعدها أبدًا - ص 67.

1. 3. الهبوط إلى الـ(هنا والآن)
ثم يبدأ الهبوط، على مرحلتين، في أولاهما يخرج البطل من المرأة ليستعيد مكانه وزمانه في فاس، وفي ثانيتهما يعود إلى مدينته، إلى عالمه الواقعي.

1. 3. 1 العودة إلى الأعتاب
يخرج البطل من المرأة ويبدأ بالهبوط نحو الزمان والمكان الحقيقيين، ولكن بشيء من المداورة. فمن جهة يستعيد السرد بصيغة المتكلم ليؤكد خروجه من عالم الأصول، صوب النقطة التي انطلق منها، فاس. لكنه، من جهة أخرى، يعيش وهو في فاس نوعًا من حلم اليقظة، يجعله يلتقي زوجته الحقيقية، زبيدته الأولى التي خلفها في مدينته مع طفليهما: سبقني الشوق إلى زبيدة وأنا بعد في فاس – ص 74.

1. 3. 1. 1 أسطرة التاريخ
الراوي في فاس بالجسد ولكنه في مدينته بالرؤيا. يقابل فيها زبيدته الأولى التي لم تحج إلى المناسك - ص 68 ولكن صورتها تمتزج بصورة زبيدة الثانية الشبيهة بصورة الجارية التي على الغلاف. صورة مزجية تتيح له أن يستعيد قصته الحقيقية معها، ومن خلال ذلك، التاريخ الفاصل ما بين فترة الأصول الذي تمثله فاس والفترة الراهنة، ليقرأه على ضوء معطيات الكتاب وصورة الماضي المجيد. وهكذا يتمكن من قراءة هذا التاريخ قراءة أسطورية [10] مطابقة للأصول، ويكون مبدأ الجسد النموذجي محور هذه القراءة الأسطورية.

تسأله زبيدة بشيء من السذاجة، وهي ترى بين يديه كتاب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه، إن كان الكتاب يروي قصتهما هل يقول الكتاب عنا؟ - ص 68. والواقع أنها إن لم تكن هي فهي تمت إليها بصلة وثيقة. فدهشتهما المتبادلة أمام سر الجسد في صورتها البكر وفي براءتها الأولى:

رأيت فرحتها في وسامة وجهها وفي نضارة لا يستطيع أن يخفيها قميصها: كل هذا لي وأنا صاحبه؟ - ص 68
تحيل إلى البداية، إلى كل بداية، كما أن رواية حياتهما وسيرة سلالتهما يتوازيان إلى حد كبير مع ما يخبره الكتاب عن حياة كمال وزبيدة الأولين. فقد تعارفا طفلين وتحابا حدثين:
قلت في نفسي: هذه هيو وهي لي وأنا الحويط. أنا قاعد لها حتى يطيب قطافها فلا تسقط إلا في حجري - ص 68.

ونما عشقهما مع نمو الجسد والرغبة. ثم تم وصالهما الجسدي، على فورانه، وفقا لما يقره الشرع تحت نظر الرسول ذلك الأب الكبير ("يا سعدي! النبي فرحان بزواجي") ووفقًا لما رسمه:
يوم كتب كتابنا ...،المأذون حمد الله وأثنى عليه وروى عن رسول الله أنه قال: تناكحوا، تناسلوا، فإنني مباه بكم الأمم يوم القيامة - ص 73.

ويشير كل شيء في وصالهما إلى تلك الفرحة العارمة التي يشي بها الكتاب: يا زبيدة، منديلك منديل الدخلة ببقعته الحمراء عمامتي - ص 73، يقول فتجيبه: أريد أن أدفن حسني في ديموتك، أريد أن أموت فيك، مثل حدوتة تسمعها وتشتاق إلى سماعها من جديد ص- 69. ومما يضيف إلى أسطرة هذا اللقاء أن زبيدة تمثل الأنوثة المحض مع أنها متحدرة من سلالة كلها فجاجة: رجال خشنون ونساء كالبقر ...كيف حفظت هذا الحسن الأصداف الخشنة؟ - ص 69. لم يكن من ذلك بد، حسب ما يقتضيه الاحتفاء بالجسد.

وتمتد الأسطرة إلى تاريخ العائلة. فمن جهة تحمل هذه السلالة سمات المكان الأول، مكان الأصول، إذ إنها تأتي من الشرق، مسقط الوحي ومنشأ الثقافة التي أنتجها جدنا الكبير جاء من الشرق على ناقة سمراء، وخلفه النساء والعيال – ص 70 والوطن الرمزي لكمال، صاحب الكتاب، ولزبيدته. ومن جهة أخرى، يتخذ البعد الإيروسي، في مواصفاته النموذجية، صفة أسطورية، فيبدو وكأنه الطاقة الوحيدة التي أتاحت لهذه العائلة التغلب على الفناء في ظروف شديدة الصعوبة، يضيف فيها قهر الحكام عمال الملتزم - ص 72 إلى شظف العيش البوار والتوحش في الفلاة ]...[ الآفة وندرة الماء وتقلب الأنواء - ص 71 مرارة على مرارة:

يعود الجد من عمل اليوم محطمًا تعبًا، مخبوطًا فزعًا. تأخذه امرأته إليها ]...[ ثرة الثديين، لينة البطن، ناعمة الفخدين، تحيط به ]...[ تغلق عليه ظلمتها المبلولة، تحلب لبنها في عينيه، وريقها في جراحه وسوائلها في قروح روحه ]...[ تصل الماضي بالحاضر فيه. في الليل يسمع شوقه وحنانها زعيقًا ترتج لها الفلاة. فإذا ما كان الصبح كان الجد قد تعزى. يخرج إلى النهار مرهقًا حبورًا، مشرقًا أملاً وممتلئًا رغبة في الفعل. - ص 71.
الطاقة الأولى التي كونت كمال المرأة تفعل فعلها في كمال الراوي.

1. 3. 1. 2 نهاية الحج، مهر التراث
هذه الرؤية للأصول وذلك التصور الميثولوجي للتاريخ الشخصي الجماعي انطلاقًا من مركزية الجسد وقدسيته يجدان في نهاية المطاف تتويجًا يهبها قدسية كمهر لا ينمحي. يجتمع بالأصدقاء، وقد ززفت ساعة الرحيل، جنب المنبر، قبالة المحراب – ص 47 في جامع القرويين، حيث بدأ حجه الحقيقي برؤية مولاي إدريس على نفس المنبر. فتتراءى له فاطمة بنت محمد الفهري، محاطة بالأعيان ورموز السلطة الروحية والسياسية، وخلفهم كافة فعاليات المجتمع من تجار وصناع وعلماء. مشهد يقابله المشهد الأول الذي تم أمام ضريح مولاي إدريس. يقابله ويكمله بإضافة الشق الآخر من الإنسانية: الأنوثة. فمن يحتل البؤرة هنا ليس الرجل (مولاي إدريس) بل المرأة (فاطمة) هي التي تقوم مقام حجر الزاوية في هذا الصرح الرمزي والاجتماعي. بذا تكتمل الذكورة بالأنوثة ليس فقط على مستوى العلاقة الفردية الحميمة بل كذلك على المستوى الرمزي العام: فالذكورة والأنوثة في اجتماعهما، في باههما، يمثلان معنى المعاني وحقيقة الحقائق. - ص 67.
ليس من المستغرب والحالة هذه أن يرى الراوي، في نهاية حجه، أن الجنة ليست بهذا البعد عن هذه الدنيا الفانية، بما أنهما يقومان على نفس المبدأ، مركزية الجسد وقدسيته. ولعل هذا ما ذهب إليه الراوي حين ختم قوله مؤمنًا على من أعلن:

إنني أرجع وأنا أقل ما أكون خوفًا من الموت –ص 75.

1. 3. 2 السقوط في الواقع والمشروع الإصلاحي
يعود كمال إلى عالم الواقع، عالم الترح، ولكنه ترح مسكون بالفرح الآتي من القدم ليرسم معالم المستقبل.
"في الحزن"، ذلك عنوان هذا المقطع، حزن يجتاحه منذ ركوبه الطائرة. يتأتى هذا الحزن من نظام آلي يحكم الأشياء جميعها - ص 76، يجعل من التواصل بين الناس أمرًا شاقًا بل مستحيلاً. أوامر تأتي من مكان خفي وعن طريق حروف لوح حبرها الضوء الأحمر لا يتحصل من مطالعتها علم بشيء - ص 75، كلام من لا موقع وبغير دلالة. وينضاف إلى هذا النظام الآلي نسقية في التصرف ليست من طبع الإنسان: مضيفات في طراز واحد كأنهن مستنسخات، يرددن لكل المسافرين نفس العبارات ويقدمن لهم نفس الوجبات. استشراء الآلة في العلاقات الإنسانية بحيث تصبح الابتسامة تكشيرة تزيد الرعب رعبًا. وإن صدر صوت إنساني فمن ثقوب في السقف تحيله صوتًا معدنيًا - ص 77. فلا عجب أن يصبح الراوي فريسة للهواجس بلا خلاص، عاجزًا عن كل فعل.
أما النظام الاجتماعي فصورة عن هذا النظام الآلي. وسطاؤه وكلاء وعمال وبصاصون وساعون بالوشاية - ص 78 يتهامسون فيما بينهم ويتلقون أوامرهم من مركز غيبي فيلقونها على رؤوس الناس دون أن يقووا على أي تواصل كلامي معهم، فكل إنسان متهم بمجرد أنه كائن. أولياء الأمر فيه فجار يخربون المؤسسات ويعطلون المصالح - ص 81، همهم فرض نظام هو في واقعه خيانة للحقيقة - ص 80، والبرهان الدامغ على ذلك أنهم ضد الكتب (إذ إنها تتلف الدماغ - ص 81) مع أنهم قوامون على أمة خرجت من دفتي كتاب - ص 81، ومن بين هذه الكتب كتاب رجوع الشيخ الذي لا يحسنون قراءته. فلا عجب بعد ذلك أن يحرم الإنسان نعمة القدرة على الحب والقدرة على القراءة - ص 81. ولا غرابة في أن يضيع الدين وتضمحل الثقافة وتعوج الألسن وترثّ المدن ويسفّ المجتمع ويحل الظاهر المصطنع محل الأصيل الحقيقي مساجدنا زلزلت جدارنها مكبرات الصوت الكهربائية فضاع الورع والجلال والترتيل – ص 80 ويهاجر الصالحون.
غير أن هذا الواقع الترح يسكنه مثال العالم الميثولوجي المنبعث من الأصول، من جذور أولى لا تزال حية على خفائها. فالهوية لا تزال عبر العصور وبالرغم من كافة العقبات متصلة الحلقات بدون انقطاع، تدل عليها استمرارية الاسم ما بين كمال وزبيدة، واستمرارية السلسلة العائلية بقواها الحية وإن كانت مضمرة:

أصدق بك كما صدقت الجدة الكبرى بالجد الكبير وهكذا بقينا. - ص 82.

تقول لكمال العائد من حجه زوجته الحقيقية زبيدة وطفلاها متعلقان بها. فالنموذج الرمزي المؤسس، المتمثل في الكتاب، لا يزال محفوظًا في القلب، حتى دون وعي. ولذلك تدرك زبيدة أن كمالا، حين يدثها من كتابه المصادر، إنما يعني كتاب رجوع الشيخ. كما أن الكتاب، مع أنه صودر، لا يزال بعد هناك ولا يزال - تضيف زبيدة – شوقك للقراءة وشوقي إليك، ومازال في العمر بقية - ص 82. وبسبب هذا اليقين باستمرارية الهوية والكتاب، يتجاوز كمال خوفه من الواقع ليؤكد سطور كبريائه، موزونًا مقفى، وإيمانه بنفسه، ذلك الإيمان الذي قرأه بكل وضوح، حين قصد الحج إلى فاس كمن يأخذ الكتابة إلى النور ليقرأها – ص 80. صحيح أن كمالا بعد عودته رأى من جديد في عيني طفليه نفس الرثاء الذي لمحه قبل مغادرته، ولكنه اكتسب الأن بعدًا آخر غيّر معالم حياته: إنه أدرك حقيقته الضاربة في الأعماق، التي حاولت حداثة متهافتة أن تغيبها باسم قيمنا ومثلنا العليا - ص 80، حقيقة مرتبطة برؤية أخرى للجسد. وهذه الحقيقة هي التي تؤسس لمشروعه الإصلاحي الجديد.

2 - سلطة النص أو المستوى التأسيسي الثاني
يتضح مما سبق أن هذا العمل الأدبي ينضح بإحالات دينية وتراثية يؤسس عليها شرعيته. إلا أن ثمة مستوى تأسيسيًا آخر أكثر أهمية وأشد وقعًا، نتقصاه في توظيف هذا العمل لنصوص دينية وأدبية ذات سلطة معنوية بالغة، من خلال تناص متعدد الأشكال يشع في جوانب القصة بأكملها.
فإن صح أن ما يسمى "الشكل" إنما هو جزء من المضمون، كما تذهب إليه بحق الدراسات الأدبية الحديثة، فإن هذه المقولة تجد في هذا النص خير تطبيق. إذ إن المنحى الأسلوبي المهيمن، بما فيه المعجم، يقول الفكرة بطريقته. فالدال الأسلوبي دال ومدلول في آن. يتبنى النص بنية المعراج بحثًا عن شرعية دينية، وبنية النص التراثي سعيًا وراء شرعية أدبية تكمل الأولى، فيتجلى معنى "الكتاب" شكلاً ومضمونًا، دالاً، ومدلولاً.

2. 1 التناص النوعي، أو الإسراء والمعراج
يستغرب القارئ لأول وهلة في بعض الأحداث مسارها العجائبي وفي بعضها الآخر تفاصيل تبدو استطرادات نافلة، ولكنها حين تنضاف إلى بعضها تصبح إشارات واضحة إلى نص أول تتماثل أحداثه مع أحداث هذه القصة، أعني قصة الإسراء والمعراج التي تناقلها الأدب الشعبي منذ قرون [11]. والتماثل لا يعني التطابق الكلي، فهناك أحداث كثيرة تختص بنص دون آخر، ولو أتى التماثل تطابقا لناء النص بالتقاليد وخرج عن كونه إبداعًا يستحق الاعتبار.

نستعرض هنا عناصر التماثل بالرجوع إلى الحلم الوهاج والحديث الهياج بمعجزة الإسراء والمعراج [12]. يندرج هذا التماثل في ما يسميه جيرار جينيمت، في كتابه Palimpseste [13]، التناص النوعي architextualité، بمعنى أنه إذا اعتبرنا أن المعراج نوع أدبي قائم بذاته، يتميز مثلاً عن القصص الغرائبي وعن أدب الرحلة، فإن رجوع الشيخ، إذ يتخذه نموذجًا لبنية أحداثه، يندرج في نوعه الأدبي العام وإن اختلفت الشخصيات والرموز وحتى الأسلوب، ناهيك عن تفاصيل أخرى كثيرة.

2. 1. 1 الإسراء ذهابًا
تتجلى في هذا النص ملامح الإسراء في طريقة الانتقال المكاني كما في طبيعة المنطلق (مكان الانطلاق) والمآل (مكان الوصول). يبدأ الراوي حجه بانتقال سريع من مدينته إلى فاس، على متن طائرة يذكر بانتقال الرسول بصحبة جبريل من مكة إلى بيت المقدس، على ظهر البراق انتقالاً آنيًا. وفي كلا الحالتين يتشابه المنطلق والمآل، فيتسم الأول، مدينة الراوي ومكة، بالحزن والعداء، فيما يتصف الثاني، فاس وبيت المقدس، بالقداسة والفرح. وتجدر الإشارة إلى أن مآل رجوع الشيخ، وهو فاس، يحيل إلى الأصول العربية الإسلامية الأولى، بينما يحيل مآل المرجع التناصي، المعراج، إلى الأصل الإبراهيمي الأول، رمز التوحيد كما يتجلى في اليهودية والمسيحية.
كما أن المسارين يتشابهان في بعض التفاصيل. في فاس، يلقى الراوي جماعة (الأصحاب وزبيدة) وكتابًا (هو كتاب رجوع الشيخ)، كما يلقى الرسول في طريقه أكبر نبيين مؤسسين (موسى في وادي العقيق وعيسى في بيت لحم)، قبل أن يشهد رمزيًا الكتاب، توارة وإنجيلا، بين المؤتمنين عليه من يهود ومسيحيين، نزّال بيت المقدس. وكما أن الرسول يتوجه إلى هيكل بيت المقدس حيث يلتقي بكبار الأنبياء، آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى، كذلك يقصد الراوي أولاً ضريح مولاي إدريس في المدينة القديمة حيث يتجلى له أمير المؤمنين، إدريس الأول بن إدريس الثاني بن ... بن علي بن أبي طالب، في ذروة جلاله وهو على المنبر يدشن مدينة فاس التي شاءها، وفيها يعبد الله ويتلى كتابه وتقام حدوده وشرائع دينه وسنة نبيه – ص 52، غير أنه يلقى بالوكالة النبي نفسه.
غير أن ما يميز ما بين الرحلتين هو الرفيق. فالرسول يرافقه إلى الهيكل جبريل، بينما ترافق الراوي إلى الضريح، بعد أن ينفصل عن صحبه، زبيدة. وفي هذا الاختلاف إشارة إلى ما تقصد إليه القصة أصلاً، تكامل الذكورة والأنوثة حيث يقوم معنى المعاني - ص 67.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://mohamedgouindi.kanak.fr
 
الجسد بين التراث والحداثة(3)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
محمد اكويندي :: التصنيف الأول :: دراسات أدبية-
انتقل الى: