- رحلة المريد إلى الأصول أو الطريق العجائبية إلى الجسد
يخبر هذا النص عن رحلة، رحلة في المكان تتبطنها رحلة في الزمان، توغل في سعيها نحو الأصول الأولى لتصبح رحلة زمكانية إلى البدء، حيث اكتملت الرؤية العربية الإسلامية للكون - أو هكذا تبدى للراوي - وأثمرت حضارة فذة يشع النص بالحنين إليها. ينطلق الراوي الرحالة من الواقع (هنا والآن) ليدخل في الحلم والرؤيا قبل أن يعود إلى الـ"هنا والآن" ليعيد صياغته من جديد وفق مبادئ التاريخ المتخيل.
1. 1 الحج إلى الأعتاب
1. 1. 1 المكان الآخر: الوعي بالثنائية
راو كهل يخبر عن مغامرته، متوسلاً أنا المتكلم. تبلغه دعوة الأصدقاء لمشاركتهم في حجهم إلى "المناسك المبرورة في المدينة القديمة" أي مدينة فاس [6]، فتبدأ فورًا مراسيم التحول بما يتطابق والهجرة إلى عالم الأصول الأولى. يفرح "يزدهي"، يتحول عالمه الداخلي بما يتناسب والمكان المقصود. يتمثل دور الأب الذي يضطلع بدور المثال:
على الأب أن يقرب لبنيه معنى الجرأة والمغامرة، ص 45.
بعد أن أدمن على حالة لا تبعث في عياله إلا الرثاء، فتصعد من أعماقه إلى وعيه صورة أخرى لنفسه وللكون على طرف نقيض من العالم الواقعي الذي يعيش فيه. فيتوازى في وعيه عالمان: أولهما داخلي خارج من رحم التاريخ يتميز بالفرح، وآخر خارجي موسوم بالترح [7]. فها هو يقابل الصخب والقهر والقعقعة والوجوه المجدورة بالمشي تراقصا وبإقراء السلام ناسًا ملهوجين – ص 46 ثيابه "تضغط على صدره ولكنه يسير مختالاً في سراويله وقفاطينه الخيالية -ص 46. وحين يجلس في جوف الطائرة يهرب من الضيق إلى عالم الحقيقة المتوهجة في أعماقه:
تسللت من الكوة، لملمت قفطاني وسويت شالي، لا حد لكبريائي، هذه السحب صحرائي ومطيتي ناقتي تمضغ ما تلتقطه من شوك الصحراء، تسير الهوينى وأنا أهتز على إيقاع سيرها وأغني: فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن / فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
].....[ ذلك هو كبرياؤنا، كبرياء موزون مقفى. ص 47
تستمر هذه الازدواجية حتى بعد لقائه الأصحاب في المكان الآخر، إذ يتعرف لديهم على بعض عالمه الداخلي:
"جلوس" والود هو الود. من خمسة عشر قرنًا والدفء هو الدفء. ص 47
بينما يبقى الخارج ما حوله نواحي رثت معالمها كما سحن الناس - ص 148. تغير المكان غير أن الزمان نفسه، والإنسان في هذا الزمان غريب، غريب عن نفسه، في عالم الغربة كما بين الأهل. عتبة أولى.
1. 1. 2 المكان والزمان الآخران: التوحد والأنوثة
عتبة أخرى يطؤها عند دخوله فاس، ذلك القلب الحافظ، مستودع السر، فباب بوجلود يقوم يقينًا دون عالم فذ - ص 48. هنا يبدأ حجه الفعلي. وللحج شروطه: لا يكون إلا بالانخراط شخصيًا وفرديًا في المغامرة الروحية، ولذا ينفصل عن أصحابه ويتركهم متجهمين، دعوني وحدي، خلوا بيني وبين مدينتي - ص 48. وللحج مراسيمه، يبدأ بكرة وها هو ينطلق من رائعة النهار - ص 48، يقتضى مؤونة وها الساقي يتقدم بأكواب تتدلى مصطفقة تروي عطشه كما على بئر زمزم، يلزمه دليل عليم بمكة وشعابها وها زبيدة، امرأة فذة بين النساء فصيحة الشهوة بليغة التشوق، تتقدم نحوه فيتخذها دليلاً ومطوفًا - ص 49. ولكن موسم الحج هذا موسم ولا كل المواسم، فالولوج في جسد المدينة، هذا المكان - الزمان المقدس، لا يتم إلا عن طريق المرأة أي باكتشاف الأنثى، على منحى جدلي، تتفاعل فيه المرأة والمدينة وتنعكس الواحدة منهما على الأخرى لتنعكسا معًا في قرارة نفس الراوي.
يباشر الحج برفقة زبيدة فيكتشف حقيقته وتتوحد عوالمه:
من ارتطام ليونتها على صلابة عودي يتنزل على قلبي وحي علوي يلهمني البصر والبصيرة - ص 49
العالم الجديد آيته الأثنى: تتوحد الذكورة والأنوثة فيه:
تشرق الأنثى في داخلي - ص 49
فيرى المدينة أنثى رائعة مكتملة، أمًا وزوجة. ويتوحد إذاك الماضي والحاضر. يتوحد عالمه مع عالم المدينة، فكلاهما حافظ ذكور - ص 49، فإذا العالم الخارجي تناسق، كما هي الحال في داخله. المعمار متناسق وجسد المدينة متفرع بانتظام، والحياة أليفة لا تزاحم ولا لهوجة - ص 49، والأجساد مطمئنة في جدها الهين في سبيل الرزق، والقلوب عاشقة بدون نزق. ملكات الإنسان كعالمه مؤتلفة رائقة: فاس، يا وطن الروح والعقل والقلب - ص 49. هذا المكان -الزمان الآخر المفعم بالتناسق، عنوانه الأنثى.
1. 1. 3 مركزية الجسد
إلا أن الحج لا يكتمل إلا ببلوغ بؤرة هذا المكان - الزمان الآخر: ضريح مولاي إدريس، مؤسس فاس. والأنثى هي الدليل إليه: قالت لي: ألا تزور ضريح مولاي إدريس؟ - ص 50. غير أن الطريق إليه يمر عبر بائع الكتب - ص 50. لا بد قبل الوصول إلى الرمز الديني الذي يحيل إلى البداية من تمثل مجمل الثقافة التي أنتجها. وبائع الكتب هذا يمثلها؛ فخبرته بالحياة تضمنها وسامة السن، وشمولية ثقافته يشير إليها تجوله في المدن العربية الكبرى، وإلمامه بكافة فروع المعرفة يشهد عليه تنوع كتبه.
على يدي هذا الشيخ يتدرب الراوي على فن القراءة فيختار من بين كتبه رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه [8]. إنه يقينًا كتاب الجسد بلا منازع ورمز الثقافة الجنسية الأشهر في العصر الحديث، غير أنه يتخذ في هذا السياق بعدًا ثقافيًا محضًا. فكأن الثقافة، عبر هذا الشيخ العالم الجليل، تهب ثقافة الجسد، بكل إيروسيتها، شرعية لا نزاع فيها. فيتحدد إذاك البعد الآخر للعلاقة بين الراوي وزبيدة، أي البعد الجسدي. يريان ما يشبه صورتهما على الغلاف.
وعلى الغلاف رسم جارية تشبه زبيدة ورسم كهل يشبهني – ص 51
فيتواعدان لأول مرة بلقاء حميمي:
وهمست زبيدة في أذني: إني لك – ص 51.
غير أن شرعية الجسد التي اكتسبت ضمانة الثقافة، لا تزال تفتقر إلى ضمانة أخرى أساسية، ضمانة الدين. وها مولاي إدريس يمنحهما إياها. فيخرج من ضريحه ويتراءى لهما بكل ألقابه أمير المؤمنين إدريس الثاني بن إدريس الأول... - ص 51، في أكمل أبهته كما بدا يوم تدشين المدينة ومسجدها، مبتسمًا لهما فيما هما يتواعدان بالوصال:
ابتهل إلى زبيدة "إنني أخاف الموت!"، التصقت بي وقالت والهة "لا تخف، سأخفيك بين فخذي، في أكثر قيعاني سخونة وبلولة، هناك لن يدركك الموت"، رفعت بصري إلى أمير المؤمنين. وسيم رحيم. زعقت أجيبه فرحان: آمين ! - ص 51
المكان – الزمان، الأول بركنيه الديني والثقافي يشرّعان لثقافة الجسد.
1. 2 الدخول في البؤرة
1. 2. 1 عبور المرأة
هنا يتخذ النص منحى آخر. انطلاقًا من هذا المكان -الزمان الأصلي، فاس، ومن بؤرته بالذات، ضريح مولاي أدريس، يغور البطل ودليله نحو المكان -الزمان الأسطوري المؤسس للحضارة العربية الإسلامية. لكنهما لا يقومان بذلك عينيًا، بشخصيهما، وإلا اختلت قواعد السرد التي تبناها الراوي، بل بالوكالة، بواسطة وكيلين عنهما، هما زبيدة وكمال بطلي كتاب رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه وقد تعرفا فيهما على صنويهما. فيبدأ نص آخر متضمِّن يحكي عن كمال الثاني وزبيدة الثانية (ولنسمهما كمال المرأة وزبيدة المرأة) وعن عشقهما الفذ، وما هما إلا صورتان عن البطلين الأولين، فكأن كمالاً الأول وزبيدة الأولى اخترقا، بهذه الطريقة المرآة لكي يبلغا العالم الآخر، عالم الأصول والحقيقة الأولى. واقتضى ذلك منطقيًا أن ينتقل السرد من ضمير المتكلم إلى ضمير غائب يتبنى وجهة نظر الراوي العليم.
ولهذا الانتقال مبرراته ومغزاه: النص يتخذ منحى أسطوريًا ولا يعقل أن تروى الأسطورة بضمير المتكلم: أيمكن لبرومثيوس أو عوليس أو أنكيدو أن يكتبوا مذكراتهم؟ وهكذا، من وراء المرآة ومن خلال لعبة الأسماء وضمير السارد، يتابع كمال وزبيدة حجهما إلى البدء الذي ما قبله بدء حيث تأسست العلاقة البكر بالجسد واكتسبت شرعيتها المطلقة. فيحكي النص المتضمن عن مسار كل من البطلين على حدة قبل أن يلتقي المساران في ذروة من التوتر.
1. 2. 2 سيرة كمال
كمال هذا، مؤلف الكتاب، متجذر في التاريخ، إذ إن له ترجمة كاملة في كتب المؤرخين يلمح إليها النص بوضوح، غير أنه وجه فذ يكتسب هنا من البدء ملامح النبوة، أو أقله ملامح الولاية. فكما