الأدب والمقدس قراءة في سفر الجسد
بطرس الحلاق
(سوريا)
علاقة الأدب بالقدسي علاقة جدلية معقدة. فالنص الديني هو الذي أسس للأدب في جل الحضارات إن لم نقل كافتها، ابتداء من النصوص الميثولوجية القديمة وحتى الديانات التوحيدية، ومرورًا بالديانات التي سبقت التوحيد أو عاصرته (شأن البوذية وديانات أفريقيا وأمريكا قبل الفتح الأبيض). كما أنه شكل انطلاقة جديدة لكثير منها. وذلك ما حصل في ثقافتنا العربية بعد ظهور النص القرآني، الذي شكل منعطفًا أدبيًا جديدًا، أهون ما فيه ابتكار الأسلوب النثري طريقة للتعبير تكمل الأسلوب الشعري.
وإن استقل الأدب فيما بعد عن مصدره الديني، فإنه بقي يقتبس منه رموزه وقسمًا كبيرًا من عناصر متخيله ومنحاه الأسلوبي، ليوظفها في مشروع تحديثي ليس بالضرورة معاديًا للدين - ونادرًا ما كان كذلك - بل مختلفًا عنه، يتناول هموم البشر وطموحاتهم، بعد أن بدأ عالمهم الفكري ينفصل عن الماورائي ليتمحور حول الإنسان ومصيره كما شاؤوا أن يصنعوه بأنفسهم.
وخير مثال على ذلك ما حصل للأدب الأوروبي في عصر النهضة، حيث راح، وهو يؤسس لحضارة إنسانوية (تركز على الإنسان لا على الماورائيات)، يغرف من الكتب المقدسة. يكفي أن نذكر بمقولة وليام بليك الشهيرة: إن العهد القديم والعهد الجديد يشكلان المنظومة الرمزية للأدب [1] التي سعى الناقد الكندي المعروف، نورثروب فراي، إلى شرح أبعادها من خلال مؤلفات عديدة [2] دلل فيها على الدور المركزي الذي لعبه الكتاب المقدس في الإبداع الأدبي الحديث. فإذا ما انتزعت من هذا الأدب رموزه الدينية وإحالاته إلى القدسي تهاوى على نفسه وضمر معناه إلى حد كبير.
هذه العلاقة يحكمها التأويل بمعناه الواسع. فالأدب، إذ يقتبس النص القدسي، لا يقاربه من الزاوية الدينية البحتة (وإلا اندرج في باب الفقه وعلم اللاهوت والتبشير)، بل يؤوله لكي يتسنى له أن ينقله من المستوى الميتافيزقي إلى المستوى البشري ويوظفه في مشروع إنساني، سياسيًا كان أم اجتماعيًا أم انثروبولوجيًا. وإن كان هذا التأويل يقوم على عملية انزياح من المستوى الإنساني المباشر، فإنه لا يختلف اختلافًا راديكاليًا عن التأويل الديني المتعارف عليه، فأي نص لا يقارّب إلا تأويلاً مهما تعددت الوجوه. وهو على كل حال اعتراف صريح بقدرة الرموز القدسية على التعبير عن أعماق المبدع وعلى تحريك مخيلة القارئ أكثر من أي رموز أخرى. إنه تأكيد على بنية الفكر الإنساني، عندنا كما في كل مكان، لا تزال، أقله حتى هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها، وثيقة الصلة بالمتخيل الديني [3]. فالقدسي الذي شكل الرحم الأول للأدب، لا يزال يكون رافدًا من روافده الأساسية.
وكما أن الأدب استطاع أن يكتمل بالاقتباس من المتخيل الديني دون أن يستغرق فيه ويعتنق موقفه، فإن الفكر الديني، بدوره، لم يزدهر إلا عندما استوعب طاقة الأدب الإبداعية ووظفها بدوره في عملية البيان التي، بالرغم مما يشاع، لا تقوم أولاً على البراعة اللفظية بل على قدرة التعبير عن الحقيقة والتغلغل إلى النفس الإنسانية لتغذيتها، وفقًا لطبيعتها الخاصة، بما تحمله من شحنة فائضة عن العقل (ليست بالضرورة نقيضة له، بما أن للعقل والدين مستويين مختلفين). بذا أصبحت الكتب الدينية (بما فيها الميثولوجيات) نموذجًا أدبيًا، لا تزال تكّون مرجعًا للإبداع الأدبي فضلاً عن الإبداع في العلوم الإنسانية الأخرى. وبذا أيضًا نهضت الحركات الدينية الإصلاحية التجديدية، في مختلف الأديان وفي كافة العصور، اقتبست من الإبداع الأدبي (ناهيك عن الفكر الفلسفي) زخمًا أتاح لها أن تجد التأويل المناسب للعصر، وإن انتكست، في أكثر الأحيان، انتكاسًا هو في حقيقته تأجيل إلى زمن لاحق. ويبدو لي أنه كلما افترق الديني والإبداع الأدبى انتكس كلاهما فتجمدا أو تقهقرا.
هذا الافتراق بين المقدس والأدب تبدو بعض ملامحه، عندنا، في العقدين الأخيرين، ولاسيما بعد سقوط الماركسية كإيديولوجية وصعود مقولة الصدام بين الحضارات. فبعض المهتمين بالقدسي (أو من تنطع منهم ليقيم نفسه وصيًا على أصالة الدين) يتربص بالأدباء لينقض عليهم عند أول زلة لسان، فيما أصحاب الأدب يتوجسون خشية من المقدس فيجانبونه. إن هذا الموقف ينذر بويل عظيم يصيب الدين كما الأدب، يرمي الأول بين المتشنجين فكريًا ويحرم الثاني من رافد إبداعي تبدو آثاره واضحة في النهضة الأدبية الحديثة منذ انطلاقها[4]. فالمشروع النهضوي، الذي يضطلع بعبثه الأدباء منذ عقود للحاق بالفكر العالمي، كثيرًا ما وظف صورة المسيح الفادي أو الرسول اليتيم، الذي شيد دولة وبنى أمة، في دعوته إلى التحرر، وصورة موسى والإنجيل للحث على إقامة مجتمع جديد مبني على قيم حقيقية، وصورة القرآن للتأكيد على الهوية العربية في وجه من يريد طمسها. كما أنه لجأ إلى وجوه دينية أخرى لمساءلة المجتمع البشري الراهن ومحاولة إعادة تأسيسه على مبادئ تتفق والقيم الإنسانية الحقة. ويحق لنا أن نتساءل: ماذا عساه يتبقى من نصوص بعض الرواد وبعض الروائيين المعاصرين ابتداء من أشهرهم، نجيب محفوظ ومن عاصره أو لحقه، إذا نقيناها من مراجعها الدينية الصريحة أو الضمنية؟ وماذا يتبقى خاصة من الشعر الحديث، ابتداء من شعر المهجر والتيار الرومانسي المواكب له، وحتى من شعر نزار قباني والشعر الحر - لا سيما في تياره التموزي - والشعر الفلسطيني وشعر أدونيس نفسه إذا ما نزعنا عنه إشارته إلى القدسي؟
وفي هذا الإطار يندرج النص الذي بين يدينا الآن. كتب في أوئل الثمانينات في مرحلة اشتدت فيها التساؤلات حول أهمية الجسد وموقعه في حياة الفرد والجماعة، فانخرط، على طريقته الخاصة، في التيار الساعي إلى استعادة ملكية (بل أكاد أقول ملكة) الجسد بكل أبعاده، جسد بكل أبعاده: جسد الأرض بالتحرر من الاستعمار (خاصة في فلسطين)، جسد المواطن بالتحرر من القمع وصولاً إلى الديمقراطية، وجسد الفرد أيضًا بالتحرر من المحرمات القمعية السائدة ليكتمل الحب بكل أبعاده. وقد شكل نقلة نوعية في مقاربة العلاقة الجسدية ما بين الجنسين تتجاوز أكثر ما كتب في هذا المجال.
الجسد حضارة، موقف من الكون، رؤية للشرط الإنساني في بعده الميتافيزيقي والاجتماعي، هذا ما تقوله قصة رجوع الشيخ لعبد الحكيم قاسم [5]، موظفة لذلك كافة طاقات التراث الأدبية والدينية. وسنقوم بتحليلها على ثلاث مراحل. فندرس أولاً البنية الحديثة وما تحيل إليه (رحلة المريد إلى الأصول) ثم الموقف الإنشائي وتوظيفه للتراث (سلطة النص) ونتقصى أخيرًا مدى الحداثة في هذا النص (الجسد بين التراث والحداثة).