ضع مدونة أخرى
لا ، ضع شيئًا باروكيًا
وفكر في الأيام الجميلة
فكر في البحيرات والأنهار
والليالي ، يا للروعة
أنت وحيد (ص٣٨)
أما في نَصّ «قصيدة»، فإننا نجد حركة قوية في اتجاه مخاطبة الذات:
هذه القصيدة ليست موجهة إليك
قد تدخل إليها بإيجاز
لكن لا أحد سيعثر عليك، لا أحد
ستتغير أنت قبل أن تتغير القصيدة
حتى وأنت جالس هناك، بلا قدرة على الحركة
عليك أن تبدأ في التلاشي، ولن تكون مشكلة.
ليس هذا مونولوجًا تقليديًّا؛ فالقارئ يتم تصويره والسرد عنه، ويتم استحضاره داخل نص القصيدة.
وهناك نوع آخر ربما يكون أكثر لفتًا للانتباه؛ فالصفحة التي أقتبس منها هنا مشابهة تمامًا للسطور التي استشهدنا بها منذ قليل من كتاب كينكاد: «عند أطراف المدينة ، وعلى الجانب الأيمن ، حين تقود سيارتك لتصل إلى الطريق الدولي المؤدي إلى شمال ميدلبيرج ، ولسوء الحظ كما يقول غالبية الكامديبو ، أنت لن تضل الطريق... إذ عليك أن تقود سيارتك على الأول طوال الوقت بسبب الحفر والصخور... وأظن أنك ستكون أقرب إلى الاتفاق مع رئيس بلديتنا(ص١٥).
والحق أن هذا الكلام جزء من مونولوج توجهه شخصية ما إلى الجمهور، في مسرحية أتول فوجارد الأخيرة «أطفالي.. أفريقيتي». ويبدو أن هذا الكلام يختص بضمير المخاطب في الخطاب المسرحي، رغم أن تحليل وجهة النظر في الدراما لا يزال في مراحله الأولى(١٥). ويمكن أن نضيف أمثلة أخرى، مثل حالات التوجه إلى الجمهور ووصفه في بداية كتاب «الترابط» The Connection لجاك جلبرت، وكذلك في ثنايا كتاب بيتر هاندكه «إهانة القرّاء». في المسرجية الأخلاقية التيودرية، وكما يشير برنار بيكرمان، كثيرًا ما يناجي نائب الشخصية الجمهورَ: «سيعرض عليهم قناعًا، أو موقفًا، أو استجابة قد لا يعبرون عنها بصراحة، أو قل لا يستطيعون التعبير عنها، وما إن يفترض شيئًا حول الجمهور يصبح حرًا في السخرية منه، أو تحديه، أو إحراجه» (ص129). إن جدلاً مشابهًا تثيره مسرحية جورج وولف «المتحف الملون» (1986). معظم مشاهد هذه المسرحية مونولوجات موجهة لجمهور أمريكي من الزنوج يتراوح بين جمهور متصور والمشاهدين الفعليين للعرض. في المشهد الأول من المسرحية يستحضر الجمهور في القصة، من خلال نموذج السؤال والرد الذي يثيره البطل. ومن المؤكد أن هذه الأمثلة توحي بأن نوعًا من خطاب ضمير المخاطب موجود في الدراما.
وبينما تمت مناقشة سينما ضمير الغائب بشكل واسع لدى منظرين مثل إدوار برانيجان، وجورج ويلسون، وسارة كوزلوف - فإن فيلم ضمير المخاطب نادرًا ما يشار إليه (رغم أن موريسيت كان قد قدم هنا أيضًا بعض التعليقات المثيرة ص٢٠-٢١). لاشك أن الفيلم المحكي بضمير المخاطب موجود، وقد علمت أن الجيش الأمريكي يستخدمها عادةً لتدريب المجندين الجدد، غير أن السينما تفتقر إلى ما في المسرح من حضور مباشر، حيث يمكن للممثلين أن يتوجهوا مباشرةً للنظارة(١٦). إن طريقتها في الإنتاج والتلقي تجعل من أية محاولة للحديث إلى مشاهديها مجرد مغامرة. والأهم من هذا أن التقاليد القائمة في سرد الفيلم تحول دون إمكانية قيام سينما ضمير المخاطب.
ويلاحظ إدوار برانيجان أن الشخصيات محرومة من النجومية في الفيلم الكلاسيكي؛ وذلك حتى تحافظ على وضعية المشاهد كشخص خفي يختلس النظر (ص٤٦). وحين يحدث هذا، يتم فهم التوجه المباشر إلى ضمير المخاطب باعتباره حكيًا شخصيًّا يكشف عن ذاتية المتكلم. ويستخلص برانيجان أننا يمكن أن نتكلم عن حركة الكاميرا «بلا دافع»، وعن التوجه المباشر إلى الكاميرا؛ بسبب وجود نموذج للحكي والتلقي المحايدين، ويؤكد أنه في كل نص فيلمي لابد أن يوجد دائمًا «مستوى من السرد العليم المؤكد (السرد الذي بقوم بالتأطير ولكن لا يقع عليه التأطير) والتلقي الذي يتم خلسةً (الذي يشاهِد ولكنه هو نفسه لا يشاهَد(. والسرد والتلقي معًا يخلقان مظهرًا خياليًا لمستويات السرد الأخرى»(ص٤٦).
وإذا كان ذلك كذلك؛ فإن من الصعب أن نفهم كيف يمكن لسرد الفيلم بضمير المخاطب أن يوجد، وأن يتم إدراكه على الإطلاق. وقد يساعدنا هذا في شرح لماذا تم فهم السرد بضمير المخاطب في فيلم «أنوار ساطعة ، مدينة كبيرة» وكأنه صوت البطل يتحدث إلى نفسه.
(٥)(
يمكن للمرء الآن أن يحدد الخصائص المميزة للسرد بضمير المخاطب، وأهم هذه الخصائص أنه صيغة أساسية من صيغ السرد، صيغة تمنح الكتاب المبتكرين طريقة جديدة لتناول المواقف القصصية التقليدية، صيغة تسمح للمؤلفين أن يوضحوا حدود الصوت القصصي والصور المبتكرة منه، وذلك كما اتضح من مناقشة الكتاب الذين درسناهم حتى الآن. الشيء المؤكد أنها أكثر الخطوات التقنية أهميةً في السرد القصصي منذ تم تقديم تيار الوعي. ورغم أن السرد بضمير المخاطب يبدو ملائمًا على وجه الخصوص لمشاغل ما بعد الحداثة؛ فإن من المهم أن نلاحظ أن الاتجاهات الجمالية المتعددة الأخرى، قد وجدت في ضمير المخاطب استراتيجية خصبة: التعبيرية (إيشينجر) والسريالية (فيونتيس) والواقعية (أوبرين) والحداثة (بوتور).
الخاصية الثانية للسرد بضمير المخاطب أنه يقدم إمكانات جديدة للمحاكاة، وللكشف خاصةً عن الذهن في تدفقه. وتكون «الأنت» السردية أكثر فعالية في الكشف عن معنى الغرابة الاستهلالية، التي نراها في مخ بطل مكلينرني المخدر بالكوكايين، وفي ذات فيليب مونتيرو عند فيونتيس. وهي الذات التي تعيش في شبه حلم خلال مغامرتها الأسطورية، كما نراها في رحلة بطل إيشينجر عبر الموت والزمن. و«الأنت» السردية مناسبة أيضًا في الإشارة إلى الذاتية المقموعة والحديث الصامت عند بطلة «أو برين» الأنثى. ويمكن للمرء أيضًا أن يشير إلى أن «الأنت» عند بوتور تلائم أشد الملاءمة عقل الفرد، الذي يعاني من الصراع في عملية اتخاذ قرارات مصيرية يفضل ألا يضطر للتفكير فيها. أما كالفينو فيوثق - على نحو مختلف تمامًا- فعل القراءة، حتى لكأنه يشترك فيه.
والإمكانات الأيديولوجية للسرد بضمير المخاطب هي الأخرى إمكانات غنية؛ فالسرد بضمير المخاطب يدعونا لإعادة كتابة أنواع الخطاب المستخدمة في التجارة، والتي تعمل على استغلال قرائها، عبر الإيعاز إليهم بأنهم المقصودون. إنها تساعد في إضفاء الطابع الدرامي على معارك فرد يناضل ضد الخطاب ذي الطابع الذاتي الذي تستخدمه السلطة القامعة. والسرد بضمير المخاطب أداة مفيدة للكتاب المبتدئين، يظهرون بها ذاتية مستبعدة من المقولات العامة الساذجة عن «الأنت» و«النحن». وعلى مستوى أكثر تجريدًا، فإن السرد بضمير المخاطب يلائم التعبير عن الطابع غير المستقر للذات، وعن تكوينها المجاوز للذات.
لقد بدأ القص بضمير المخاطب منذ ما يزيد على خمسين عاماً. وقد حاولت هذه المقالة أن تشير إلى تنويعات هذا النمط المهم والمتزايد من أنماط السرد، كما حاولت أن تشير إلى مداه ودلالته، وتلاحظ بعض أصوله والأنماط الشبيهة به. وسعت الدراسة إلى تبيُّن ثلاثة أنماط من السرد بضمير المخاطب والتمييز بينها: الشكل النموذجي المألوف المتزايد، والشكل الشرطي الشهير الذي لم يدرس حتى الآن، والشكل المتجاوز المتوجه إلى الذات. وقد آن الأوان لعلم السرد ونظرية وجهة النظر أن تكون عادلة مع هذا الأسلوب المهمل والمستبعد.
٭ نشرت المقالة في مجلة Genre خريف عام ١٩٩١
الهوامش
(١) يقدم موريسيت في هذا المقال مسحاً تاريخياً للقصص المحكية بضمير المخاطب قبل مقالته. انظر مسحاً واسعاً وحديثاً للموضوع في استقصاء بريان ماكهيل الممتاز ضمن كتابه ز القص ما بعد الحداثي (ص٢٢٣-٢٢٧) حيث يشير إلى بعض النصوص التي نناقشها هنا.
(٢) انظر مراجعات كل من فرانسوا فان روسوم جويون، وكاترين باسياس، وتريزا دولاريدس وبول شوارتز (١٩-٢٩)، وبيير جولت وبريان ماكهيل (رامبو).
(٣) عمل جيرالد برينس المشار إليه هنا هو «علم السرد» Narratology. أما في كتابه الأحدث «قاموس في علم السرد (1987) فقد سلم للحكي بضمير المخاطب بمكانة مساوية للأعمال المحكية بضمير المتكلم والغائب، رغم أن تعريفه للشكل كما سنرى كان فضفاضاً إلى حد ما. أما كتب نظرية السرد الأخرى المشار إليها هنا فيمكن أن نجدها في قائمة المراجع.
(٤) هكذا يكتب فيلدنج في الكتاب ،الفصل vii ،من رواية زتوم جونزس، وحيث يظهر المؤلف نفسه على خشبة المسرح، زيا قارئي الشاب،ليكن هذا مثلك السائر،لا أحد يمكن أن تسمح له طيبته بتجاهل أصول الحكمة... إلخ».
(٥) لمقارنة تفصيلية بين استخدام بوتور وساروت لضمير المخاطب راجع جيفرسون.
(٦) لمناقشة إضافية حول تبدل الضمائر في عمل بوتور ، انظر موريسيت (ص14-16) وباسياس جلوريا دوران ، التي تلاحظ الأصوات المختلفة الحاضرة في رواية Aura ، وتشير إلى أن «ضمير المخاطب شكل مألوف تكتب به القصة ، ويمكن تفسيره باعتبار أنه ذاته اللاواعية ، الأقدم ، والأكثر حكمة ، تلك القريبة إلى سر القدر ، وتلك التي تلاحظ خطوات فيليب من المنظور المفضل لتجربة الماضي»(ص٦١)
(٧) ليس معنى هذا أن نقول إن سيرة ما ، لا يمكن كتابتها بضمير المخاطب ، فالحق أن دراسة جان ميشيل رينو لسيرة بيريك ، هي دراسة من هذا النوع أحياناً. غير أن ذلك الشكل يكون غريباً ، وأدبياً ، وخجولا ، ومستمداً من ممارسة القص التجريبي ، ولا جدود له في أشكال السرد الأكثر وظيفية ، وغير المتخيلة ، أو أشكال السرد «الطبيعية»
(٨) في نقد المقاربات الشمولية لعلم السرد ، انظر مقالتي «الزمن مشوشاً: نماذج السرد والصفة الزمنية للدراما».
(٩) هناك بحث مسلٍّ حول العلاقة بين النوع (ذكر - أنثى) والوصفات. انظر سوزان ليوناردي
(10) انظر على سبيل المثال لعب كالفينو المتزايد بهوية المؤلف ص(٢٥)
(١١) لكنه يركز على الطابع المرن «للأنت» ، ويلاحظ بعض ما تتضمنه هذه الممارسة السردية : «فإذا حكى شخص قصة لشخص محدد ، موجود في مشهد الحدث نفسه ؛ فإن الطبيعي في هذه الحالة أن يسأل القاري : لماذا تحتاج «الأنتز أن يحكى لها ما تعرفه فعلا وبالضرورة»(ص٧٦)
(12) راجع دراسة موريسيت المحكمة حول الهويات المتباينة للراوي والبطل في رواية زالتعديلس ص ص 13- 18
(13) حول الأبحاث النظرية الأخرى التي تحاول وضع القراء الفعليين ، رجالا ونساء ، في إطار نظرية السرد ، انظر كلاً من سوليمان ووارهول(25-30/١٩٩-٢٠٠)
(14) لمناقشة شاملة لمسألة النوع (ذكر -أنثى) والقارئ في هذه الرواية ، انظر المقالة الممتازة لتيريزا دو لوريتز بعنوان «قراءة النص ما بعد الحداثي» ، حيث تشير على سبيل المثال إلى أن «الأنت» في هذه القصة تتوجه إلى قارئة مؤنثة طوال ست صفحات ، بعدها يبدو كالفينو محتاجًا أن يؤكد لقارئه الذكوري أن الكتاب لم يفقد الاهتمام به (139-140)
(15) لمزيد من التوضيح حول هذا الموضوع المهمل انظر مقالتي «وجهة النظر في الدراما : المونولوج المباشر ، والرواة غير الموثوق [strike]