هادي
فاضل ثامر
في قصص سيامند هادي الثلاث (عودة رجل من الظلام ) و ( الغرفة التي انتحر فيها صديقي ) و ( رحيل الام الكبيرة في الثلاثاء ) ثمة قواسم مشتركة مدهشة ، تكاد أن تجعل منها ( ثلاثية ) او متتالية لثيمات سردية متقاربة فثمة داخل/ خارج دائما. الداخل هو الغرفة التي يطل منها البطل على العالم الخارجي، وهي في الغالب، معتمة، غامضة، تضخ مرئيات و أحاسيس قاتمة ويجتاح البطل احساس بالاختناق داخلها ورغبة في مغادرتها نحو فضاء اوسع هو الخارج. الخارج دائما هو هذا الفضاء اللامتناهي الذي يطل خلال نافذة الغرفة الوحيدة، وهو رمز للحرية، والخلاص من كوابيس العلبة الحجرية المعتمة ( الغرفة بجدارنها الكالحة ).
في قصة (عودة رجل من الظلام) تتحول الغرفة الى كابوس مخيف يحد من افق تخيل البطل: ( ابتعاد الفراشة عن المصباح ودورانها في سماء الغرفة اوقفا خياله، وراى الغرفة وكأنها شبكة تعيق أماله...) وظل البطل يحول نظره من الغرفة ( الداخل ) الى النافذة ( الخارج ). حتى ( سقف الغرفة كان مراقبا على حرية اماله ومانعا لتحليق طير خياله ) وتتحول الغرفة فجأة الى (عجلة الزمن).
تذكرنا بالعالم الذي تخيله هـ. ج ويلز يطل خلالها البطل على مشاهد ومرئيات متبدلة وسريعة في جريانها. كأن الزمن يسيل و يركض بسرعة، واحس البطل بانه بدأ ايظا يشيخ (وللحظة التفت الى ملامحه وجسده، وراى شعر لحيته قد طال وبدأتا تشيبان، وتبين له ان اعواما من عمره قد مضت ). وبعد ان مزقه الاحساس بالملل (من النظر الى الجدران حوله )، شعر بأن الباب والنافذة قد ( صارا مثل ورق ممزق ) ، وبأن اشباح الغرفة تحاصره وتطارده فأضطر في النهاية الى الهرب من الغرفة وتختتم القصة بهذه الجملة الدالة ( فغطى عينيه بيده وهرع صارخا وتخلص من الغرفة) وهكذا ينتصر الخارج وتنحل ثنائية الداخل/ الخارج. ومن الجلي ان الغرفة قد تحولت الى معادل موضوعي للكابوس المركب الذي هيمن على وعي البطل والذي حصره في /داخل/ معتم ومدمر يشده دائما الى زمن الماضي الذي يود التخلص منه والانطلاق نحو زمن المستقبل، وهذا لا يتحقق الا بالخروج من شرنقة الغرفة نحو /خارج/ مليء بالصور والحياة والحرية.
في قصة (الغرفة التي انتحر فيها صديقي) تهيمن مفردة (الغرفة) على عنوان القصة ذاته، وتصبح بؤرة مكانية مولدة للحدث ذاته، فهذه الغرفة هي التي شهدت انتحار صديقه، ولذا ظلت الغرفة تترأءى له ملطخة ببقع الدم. وبالاشلاء البشرية الممزقة هنا وهناك (لم استطع ان التفت الى تلك الغرفة التي كنت اعتقد بأن الدم يفور منها نحو السماء) كانت الغرفة بمثابة حقيبة مليئة بالاسرار واللقى والذكريات، وهي تذكرنا بشكل ما بالغرفة التي يدخلها بطل محمد خضير في قصته (ا لمملكة السوداء ):
( كان صديقي معلما ، وقد تم تعيننا في هذه المدينة وسكنا معا في تلك الغرفة، الغرفة التي كانت مليئة بالذكريات وكانت تبدو لي مثل صرة مليئة بالحوارات و التأملات ).
هذه الغرفة تمثل ايضا الطرف المهم في ثنائية الداخل/ الخارج. فالغرفة هنا كابوس اسود مقيت، لكن بصيص الامل كان يطل دائما من الخارج وبالذات من خلال جدرانها الزجاجية ونوافذها المستطيلة: ( وجدرانها من الزجاج ومن خلالها كنا نرى افق الحوادث اليومية.. وكانت شبابيكها مستطيلات من النور...) وبعد ان يعيش البطل حالة كابوسية متصلة تتداخل فيها الحقائق والاوهام يبحث له عن ملاذ في الهرب من الغرفة، رمز (الداخل) نحو فضاء (الخارج) المضاء بوهج الحرية، ولذا تكون الضربة الاخيرة من الحركات او الوظائف السردية بتعبير رولان بارت تتمثل ايضا في فعل مغادرة الغرفة ، تماما مثلما فعل سابقا بطل (عودة رجل من الظلام ) : ( لهذا لم استطع ان ابقى في تلك المدينة بعد وفاة صديقي ). ( كما لم استطع ان ابقى في تلك الغرفة، دون ان التفت واترك المدينة الى الابد) هكذا يصبح الخروج من /الداخل/ الغرفة قطيعة لا مع الزمان ( الماضي ) فقط بل مع المكان ايضا.
في قصته (رحيل الام الكبيرة في الثلاثاء) تصبح الغرفة اكثر شفافية واقل عدوانية. لكنها تظل مستودعا للاسرار والاحزان والتأوهات، ويظل الخارج الذي كان يطل عليه من الشباك رمزا للحرية والانطلاق. فالبطل يبدو كأنه عابر سبيل يخطو خطواته مشغولا بتنظيف الشباك الذي يطل على الزقاق.. وظل الشباك يرمز دائما الى ما هو مجهول والى ( فضاء الحكايات التي كانت ترويها جدته لأبنه ):
( بعد موتها، وفي ليالي الشتاء خاصة يتذكر جدته وهي جالسة وسط الغرفة وتروي لأبنه حكايتها ).
ويتحول فضاء الخارج المطل من خلال الشباك الى نقيض للموت وطريق الى المستقبل:
(في الامسية التي أخبروه بالنبأ، أرسل خياله وهو يقوم بتنظيف الشباك الى المستقبل). نافذة (سيامند هادي) هنا هي صورة أخرى للنافذة التي كانت تطل منها بطلة جيمس جويس في قصته القصيرة الموسومة (ايفلين). فهذا الشباك ذاته هؤ الذي نقل له نبأ وفاة جدته مساء الثلاثاء وهو الشباك ذاته الذي نقل له خبر الفاجعة الاخرى بوفاة ولده ليتحمل وزر موتين: موت جدته التي تأخر في ايصال الدواء اليها، وموت ولده الناجم عن اهماله وتركه دواء الجدة في متناول يدي ولده:
( وعندما كان مشغولا بتنظيف شباك الغرفة فجأة دخلت نفس المرأة التي اخبرته بالموت وكانت امسية الثلاثاء ايضا. وقطعت خيوط خياله، وبنفس متقطعة أخبرته نبأ موت ابنه ).
وأضافة الى ثنائية الداخل/ الخارج التي تهيمن على قصص سيامند هادي الثلاثة نجد ثيمة حياتية مركزية في هذه القصص، هي ثيمة الموت، فجميع القصص تكاد تتمحور حول هذه الثيمة المهيمنة. ففي قصة (رحيل الام الكبيرة في الثلاثاء) يكون موت الام الكبيرة (الجدة) هو الحدث المركزي الذي تجتمع عنده كل خيوط السرد والوصف والاستذكار، واذا ما ابتدأت القصة بموت الجدة فهي ايضا تنتهي بموت ثان هو موت الابن الذي مات بسبب تناوله دواء الجدة. ويتحول الموت هنا الى بنية مولدة اخرى: بنية لآعادة تنظيم المشاعر والافكار والذكريات والاحزان تسهم في الكشف عن خصوصية البطل. وفي قصته (الغرفة التي انتحر فيها صديقي) يتخذ الموت صفة انتحار مؤلم ومفزع، ويتحول الموت هنا الى لازمة كابوسية تحمل تنويعات ورؤى بصرية مجسدة للدماء والاشلاء المقطعة. يمكن القول ان الموت يتحول الى سمفونية حزينة وباكية تتحكم في حركة البطل المركزي وأفعاله ومشاعره. أما في قصة (عودة رجل من الظلام ) فمليئة بمشاهد الموت والفناء والزوال. في هذه القصة كل شيء ايل الى الفناء المفاجيء: فالاشجار تموت، وتصفر أوراقها ثم تتساقط في غمضة عين، وتموت الفراشة التي كانت تدور حول مصباح الغرفة وتتناثر اجزاوءها التي تغدو مثل قطعة قماش محروقة، حتى الشمس كانت تموت مرات ومرات، بل ان الباب والنافذة صارتا مثل ورق ممزق، وتختتم مشاهد الزوال هذه بأستذكار مشهد موت جده، فيشعر بالاختناق والرغبة في الهرب من هذه الرؤى الكابوسية التي ولدتها هذه الغرفة: (كان مشغولا بالبحث عن سبحة جده لكي يبقيها عنده للذكرى في ذلك الحين، ألتفت الى الوراء، رأى شبح جده في احدى زوايا الغرفة، فغطى عينيه بيديه وهرع صارخا وتخلص من الغرفة). هكذا تتحول ثيمة الموت الى مهيمنة رؤيوية وشعورية وفكرية ضاغطة على وعي أبطال هذه القصص الثلاث بطريقة لافتة للنظر. أما من الناحية البنيوية والفنية، فالقاص يعتمد على أستثمار طاقة المنولوج الداخلي لبطل مركزي منفرد، يكاد ان يكون واحدا، أو متماثلا في جميع القصص الثلاث. فالبطل مثقف او متعلم يجيد القدرة على التأمل والتفلسف وأستحضار المرئيات، وهو غالبا ما يلجأ الى تجميد سيولة الزمن، والفعل الخارجي لاتاحة الفرصة للذاكرة بأن تمتد عموديا و أفقيا لاستدراج مشاهد الماضي في شباك السرد في فعل قصصي دال يصب في مجرى تشكيل البنية السردية وتمظهرات الخطاب القصصي المختلفة. ولأن القصص الثلاث تنطوي على بطل مركزي واحد في كل منها، فقد اعتمدت كل قصة على ضمير سردي واحد, ففي قصتي (عودة رجل من الظلام)و (رحيل الام الكبيرة في الثلاثاء) هناك توظيف لضمير الغيبة (هو)، وهو ضمير يقترن بتيار الوعي او الشعور لدى البطل المركزي. لكن هذا الضمير الغائب يكاد ان يكون في واقع الامر صورة مموهة لضمير المتكلم يطلق عليه تودوروف ( أنا الراوي الغائب ) وصورة أخرى لما يسمى في السرديات الحديثة بـ(المونولوج الداخلي غير المباشر) وينجح هذا الضمير في تفعيل ألية المونولوج لعرض المرئيات والاحداث التي لا توجد لذاتها، وانما توجد من خلال وعي فردي محدد، هو وعي البطل المركزي: الرائي بالعين و البصيرة في وحدة بين الماضي و الحاضر والمستقبل من خلال عملية تبئير محددة. أما قصة (الغرفة التي أنتحر فيها صديقي) فتوظف حصريا ضمير المتكلم منذ استهلالها حتى نهايتها (عندما كنت مدليا حقيبتي على كتفي، لم استطع ان التفت الى تلك الغرفة) وهذا الضمير يمنح القاريء الاحساس بالوثوقية لانه يمثل شهادة سردية من الدرجة الاولى ويتيح الفرصة للاحداث والصور والذكريات بأن تمر خلال بصيرة ووعي البطل المركزي الذي يبدو اكثر سيطرة على حركة الخارج بوصفه (الفاعل) والمؤثر الذي ينتقي احيانا المشاهد، لكنه احيانا يجد نفسه خاضعا لأرادة الخارج وتقلباته واملاءته.
ويمكن القول ان توظيف ضمير المتكلم تارة وضمير الغائب تارة اخرى في قصص (سيامند) الثلاث قد وفر فرصة لخلق ألية لتنظيم الوعي والمشاعر بطريقة خاصة قريبة الى حد كبير من منحى الوصف الموضوعي المحايد. فالبطل المركزي هنا هو مجرد مراقب يدون ويراقب مايرى وما يسمع ولا يتدخل في ذلك بأسقاطات سيكولوجية مباشرة، فالبطل المركزي ينقل ما يرى ببرود ولا مبالاة وموضوعية، ويذكرنا الى حد كبير ببطل رواية (الغريب) لألبير كامو. اذ كان (ميرسو) ينقل لنا صورة موت أمه ببرودة وحيادية ودونما تأثر سايكولوجي، بل يواصل ممارسة حياته وأفعاله بعيدا من الوقوع تحت اسقاطات سايكولوجية لفعل الموت ذاته.
ومع ان ابطال القصص الثلاث يتحدثون عن وقائع ترتبط بالموت، لكننا بسبب طريقة تدوين الحدث موضوعيا وحياديا، لا نشعر بهيمنة مشاعر الحزن والاسى او الشجن على العوالم السردية. فما يحدث هو مجرد وقائع باردة، مجمدة، تمر خلال (فلتر أو مصفي) خاص لتتحول الى أفعال ورقية متخيلة تقطع سياق التماهي والتقمص والتعاطف من طرف القاريء او المتلقى، وهي لعبة سردية دقيقة يديرها القاص الحداثوي (سيامند هادي) بمهارة وذكاء مؤكدا قدرة متميزة على القص بعيدا عن المباشرة والصراخ والشعارات والمباشرة، وهو ما يجعله يلج بهدوء بوابة الحداثة في السرد الحديث.
--------------------------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------------------------
--------------------------------------------------------------------------------
]