المسرح صرخة في صحراء المدينة العربية!
المخرج البحريني عبدالله السعداوي:
21/11/2007
الشارقة ـ القدس العربي : بنظرة يقيم فيها حلم غائر، أمل بعيد وميض حاد، وهدوء تحكمه ابتسامة غامضة يطالعنا وجه المسرح البحريني عبدالله السعداوي.نري عقودا من النحت في الزمن تتشكل كبضع خطوط علي وجهه وحصيلة تنوف عن العشرين عملا بين الكتابة والإخراج مخبوءة في عينيه لقاء سريع قد لا يشبه اللقاءات، فهذا المسرحي العربي البحريني الأصيل بحر معرفيٌ فنيٌ أنسانيٌ ثري، رجل مليء بالتجارب والحياة والمسرح هنا نحاول أن نلقي بعضا من الاضاءات علي فكر هذا المسرحي الذي صدر عنه العام الماضي كتاب (السرد النحت في الزمن قراءة في تجربة عبدالله السعداوي المسرحية) للباحث حسام أبو إصبع جمع فيها أراء ودراسات تناولت جوانب من فكره ومسرحه. التقينا السعداوي مكرما في مهرجان الخليج الثقافي الأول في الشارقة وكان هذا الحديث.
أين هو المسرح اليوم في زحمة وسائل التواصل والاتصال؟
هناك مسرحية للمسرحي الأرميني وليام سارويان بعنوان السلام عليكم ، أعتقد أنها تشكل شيئا من رأيي في المسرح، فالمسرح لم تعد له تلك الوظيفة القديمة ولكن تواجده في غاية الأهمية، لأنه يقدم التحية ويقول السلام عليكم ، أي أنه يريد متلقيا. يعني أنا والآخر، غياب المسرح هو غياب للآخر وخاصة في هذا العصر وما يسمي العولمة التي اختزلت الإنسان وكرست المادة بدلا عنه، فلا احد يرد عليك السلام.
العصر الحالي هو بالضرورة ضد المسرح، ولأن العولمة لا تستطيع مسح المسرح، عولمته حولته للاستعراض، للإبهار، للاستثمار، فذهب الإنسان وبقي الشيء ، ورغم كل ذلك المسرح ما زال صرخة في صحراء المدينة، هو الآن لا يحسن شيئا سوي قول السلام عليكم.
هل هناك من يستطيع أن يرد تحية المسرح بأحسن منها أو أضعف الإيمان يرفع يده قليلا ويهمس أهلا ويمضي؟
نعم هناك قلة قليلة جدا، بعضهم لأنه يرد السلام بتحية أحسن منها، مات كمدا أو انتحارا حزنا أو غما أو عاد إلي كهفه لينتظر شيئا ما ليحدث، ليعود للقول (عليكم السلام) كل عبارة سعدالله ونوس خير من يمثل حالتنا (إننا محكومون بالأمل وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ).
ألستم تروجون للأمل، والناس لم تعد محكومة للأمل، إنما للملل والضجر والويلات؟
ملحمة السراب التي كتبها ونوس، تقول إننا محكومون بالأمل في كل شيء رغم كل ما يحدث من تغيرات. هناك قول للشيخ النفري: (اقعد سمّ ثقب الإبرة ولا تبرح فإذا مرّ الخيط فلا مساس). لم يقل أجلس، قال أقعد يعني تهيئ للمشي، في المسرح أنت تقعد ولا تجلس.أملنا دائما بالعمل علي تفعيل اليأس لا لتكريسه،بل لجعله شقاء يمكن تجاوزه.ولا نَهبُ سرنا للريح، نهبُه لمجموعة من الأعزاء وقد يخونوننا ولكن خيانتهم أيضا مغتفرة،لأننا للأسف الشديد وطأتنا سنين من الأكاذيب وحينما استيقظنا.. نمنا.
مثل أهل الكهف؟
لا علي العكس أهل الكهف، عندما استيقظوا وجدوا ما كانوا يبحثون عنه، لأنهم ناموا بإرادة أمل حقيقية.
كنت من الفاعلين والمؤسسين في مسرح الصواري، في أي بحر يبحر اليوم؟
في البحرين... لكن الذي يحصل الآن أن البحر يندفن، فصار يبحر علي الرمل. شاركنا في بعض المهرجانات وأبحرنا بين جزر عربية متباعدة ولكن نحن جاهزون لنذهب إلي أي مكان يريدنا.
تسييس المسرح ضرر أم ضرورة للمسرح ؟
لا نستطيع إلغاء المسرح السياسي أو مسرح التسييس لأننا لا نستطيع أن نلغي بريخت، الجانب التحريضي هو جانب من جوانب بريخت، ولكن بريخت من أوائل الناس في التنظير للعمل مع المتلقي. من كسر الحائط الرابع وكسر الإيهام، والآن هناك دارسات كثيرة علي هذا المتلقي ولكن الأس الأساسي بريخت لما استلمه من كتاب التحولات الصينية، وعمل حالة التغريب صحيح لم يفلح تماما وأيضا هايدا سبيكل زوجته كثيرا ما تندمج في الدور ولكن. بريخت كان يحلم بتغير العالم والأشياء التي ذهبت بشكل عكسي. عادل قرشي ناقد مهم مختص في بريخت هو خير من وضَحه، السجان الآن مثل شخصية في المثيولوجيا الإغريقية القديمة، بنتكور له أعين في كل اتجاهات رأسه ، لذلك تخففت الرقابة التقليدية الآن ،الأنظمة والسلطة تقول للمبدعين قولوا ،لانها ستبدو متفهمة للرأي الآخر وواسعة الصدر، علي كل بريخت نفسه له مقولة هامة، (كم من الجهد يبذله الإنسان ليصبح شيطانا، والمأساة أن يصبح إنسانا) السياسة اليوم في كل شيء.
ماذا عن الرقيب كيف تتعامل معه في أعمالك؟
الرقيب الخارجي أصبح مشبّحا، أضحي شبحا لا يمكن أن تعرف من هو، تبحث عنه كي تشير إليه، لا تجده وكذلك باقي حياتنا كل ما فيها يذهب إلي التشبح، المسافات تلغي، النقود تلغي، وكأنها ضد الملامسة، يلغي الملموس. فبينما نحن نتحدث الآن أموال تعبر من فوقنا وجانبنا وغسيل أموال يتم ذهابا وإيابا ولا نستطيع أن نعرف من المجرم من الشرير، هم الآن مجموعة لا نراهم ولا نعرفهم، اختفي العدو وشبّح نفسه.
انا متدين حتي النخاع. والمسرح والدين أوصلوني للإنسان وعلموني معني إنسانيتي من خلال عملي في المسرح لم أتعرض للمنع أو الهجوم لا من المتدينين ولا من السلطة، فأنا مشغول بقهر الرقيب الداخلي كي أتعلم كيف أقبل الآخر. برأيي وسائل بناء الحضارة، أي حضارة هي خمسة أقانيم (الدين، الفن، العلم، العمل، المال). ليس لدي أعداء سوي الذي يحاول أن يقضي علي الإنسان، لأنه يقضي علي الحياة نفسها، من يعتقد أنه يملك الكون أو الناس هذا الذي يدعي الألوهية لنفسه مثل حاكم يختصر الناس بشخصه،هم أعداء الناس وأعداء الحياة. أما الأوصياء علي الدين فلست مشغولا بهم.
لكنهم حرّموا المسرح وهم مشغولون بك وذهنية التحريم تطال الكتب المطبوعة فما بالك بالمسرح؟
الرد الحضاري عليهم لا تتعب نفسك معهم، علي فكرة ليسوا هم فقط من يدعون الوصاية، العلمانيون أيضا لهم قوائم من الوصاية يقولون بالتنوير ـ التنوير يعود للقرن السابع عشر ـ ويريدون إرجاع الناس لمقولات أيضا قديمة، تركية علمانية لكنها (عفّست) الناس وتمارس القمع وتفرض سلطتها علي الآخر، تمنع أي تعبير ديني، بشكل لا ديمقراطي. علي كل هناك مقولة للإمام علي تقول: ليس الزهد أن لا تملك شيئا، إنما أن لا يملكك شيء. والزهد هنا حرية.التقيت مرة في العمرة بالناقد الكبير المرحوم تركي علي ربيعو وهو بحق من أكبر العقول النقدية العربية، قال لي أنه كان يظنني شيوعيا ، قلت له المهم عندي بشكل شخصي قهر نفسي وصراعي الحقيقي مع نفسي وليس مع التصنيف لا يوجد أوصياء علينا ولا وقت لدينا لغير المسرح والانصراف لمعرفة الذات، عبد القادر الجيلاني سُئل مرة من قبل الوالي يا شيخ لا نجدك بيننا لماذا لا تجيئنا. أجاب: المحب ليس له عينين لغير الله).
زوربا غير المثقف المجنون البسيط الشعبي، يقول: كل شيء غير عادل ، كل شيء غير عادل، وأنا زوربا دودة الأرض لا أوافق علي ذلك. إذا كانت دودة الأرض لها موقف، فكيف يمكن التصالح مع الواقع بهذه الطريقة؟
يقولون عني إني ضد مسرحي، أنا مسالم دمث هادئ في خارج المسرح، وصادم للطاقة القصوي علي الخشبة، في مسرحيتي الأخيرة متروشكا . كان هناك رجل يغتصب ابنته، وكان هناك رجل مريض آخر يذهب للطبيب فيخبره بأنه لا يعاني من شيء وهو بلا أمراض لأنه ببساطة ميت. الإنسان الذي يري كل ما حوله من تسليع وعهر وسرقة ولا يقول شيئا وكأن الأمر لا يعنيه، هو ميت. إذا بلغ فينا الحياد هذا المستوي من عدم الاهتمام بقضايا الناس فنحن موتي، هذه مقولة المسرحية، فهناك فرق بين الزهد والسكوت عن جريمة، فلما يختزل الشعب بالحاكم، هذه جريمة ولما يختزل الناس برجل الدين، هذه جريمة والساكت عنها ميت وليـس علي قيد الحياة ،هذا التصدي يحمل في مضمونه أن تتصدي لنفسك فقد تتصدي للوصي وتصبح أنت الوصي من حيث لا تعلم. كثير من الثورات انقلبت إلي دكتاتوريات تشبه ما ثارت عليه لذلك في المسرح أذهب إلي نقيضي في الحياة ومن الجدل والصراع أقدم مسرحي، وبينهما أتعرف علي نفسي، ألقي (السلام عليكم) وأمضي لأقهر حصان طروادة المختبئ في داخلي.
أخيرا سرق التلفزيون من المسرح كلمة دراما، هل ما نراه اليوم علي الشاشات هو دراما فعلا؟
نادرا ما أتابع التلفزيون ولكن كثيرا ما نري أن التلفزيون يذهب إلي تخريب حواس الإنسان وخصوصا الآن في المسلسلات.نجدة أنزور عمل مجموعة من الخربوطات في الفانتازيا وفي الخليج تحت مسميات مغايرة في الصورة والشكل فأنتج حكاية تخرب الذائقة لي صديق من التلفزيون هو حاتم علي نتمني أن لا يخرج عن المسرح، الآن هو يعمل ويحصد شهرة وفلوسا ولكن أبدا هو لا ينتج دراما. قديما كان هناك رجل فلسطيني يقدم أعمالا مهمة اسمه عباس أرناؤوط ولكن هذه الأيام التلفزيون هو استعراض السوق، قيمة السوق تسيطر علي الكون، وهذه القيمة تستخدم التلفزيون وتعمل علي تشويه خطير جدا بحجة محاكاة التاريخ والواقع إنما هي في الحقيقة قيم سوق بحتة خذ مسلسل خالد بن الوليد ، تم تخريب الصورة وتسطيح شخصية بحجم خالد بن الوليد. بلا حسيب ولا حتي أدني احترام للمشاهد وكمية كبيرة من المسلسلات التاريخية تزيف الوعي التاريخي.
التقاه: فادي عزام
azzamfadi@gmail.com0
--------------------------------------------------------------------------------
ارسل هذا الخبر الى