موضوع: تابع الاولالقصالاستعاري الإثنين نوفمبر 19, 2007 11:34 am
.
واستوى السرد الواقعي في مجموعتها الثانية «ترانيم بلا إيقاع» (1995)، واندغم في مدار هذه البنية الاستعارية التي لا تكتفي بالصدق الواقعي لترى العلاقة بين الرجل والمرأة توهماً يبعد القصة عن مجرد السرد الأنثوي إلى إثارة أسئلة وجودية أعمق.
تخاطب المرأة في قصة «ترانيم بلا إيقاع» الرجل وهو يتجول باحثاً عن اللوحة المميزة، وتحلل سلوكه وطباعه وعلاقتهما التي فقدت انسجامها، فثمة خلل ما دون أن تباشر القصد.
وقد بنيت القصة على نجوى سرعان ما تصير إلى حوارية معه في داخلها المعذب، وكأنها تشكو لنفسها عطب الذات عنده وعندها دون أن تشخّص دوافعه أو مآله، فالقصة نجوى حوارية تستطلع قسوة العلاقة بين الرجل والمرأة لدى تحققها، ولا يختلف مثل هذا المقطع عن سواه:
«مرتبك أو خائف أو هارب.. كل حياتك هكذا.. بحث وفشل وهرب وعبثاً تطيعك قدماك تثبت نظراتك في الأسفل، حيث مياه النهر تسير بهدوء حاملة ظلال ليل وأشجار وبعض أنوار خافتة. فجأة تتجمع أبرز نقاط حياتك.. مذ كنت طفلاً حتى هذه اللحظة، وتشعر أن الزمن صغير جداً، وعندما تفكر بالتفاصيل تشعر بأنك عشت زمناً مديداً تعجب لأنفاسك المتعبة اجتيازه لم تمعن التفكير بأحلامك، لأنك لم تحلم كثيراً. كان الشك يجعلك تدور في حلقة مفرغة. وتبقى مفرغة. وتبقى مكانك» (ص15-16).
ثم انتهت القصة إلى الإقرار بحالة الضياع والاستلاب واللاجدوى في تمحيص مدى الإحساس بالحياة:
«تدير ظهرك وتعود في الطريق ذاتها تبحث عن لحن ما، أو أغنية عبثاً. تنسل يداك إلى جيبك، تمشي دون تحديد أية وجهة. ومن بين شفتيك يتصاعد صفير متقطع بلا إيقاع» (ص19-20).
واخترع الرجل المرأة في قصة «صالحة» (لاحظ المفارقة اللفظية والمعنوية في الاسم الذي ينخرط في نسق التنضيد الحكائي تعبيراً عن مرارة الوجود أيضاً) وحبلت، ثم تزوجها ولكن الندم طاغ يلاحقها على الرغم من زواجهما، فتنذر النذور، بيد أن لمسة التوهم خارقة يصير معها الفعل أشد اعتيادية وطبيعية. والمدهش في السرد الاستعاري الارتقاء به إلى مستوى الأمثولة، فما يحدث أدخل في فهم المعاناة العامة على فوات الخيار السليم في وقته:
«كل الأجساد المتعبة بألسنتها تحمل حكاية نهار حافل طويل سوى صالحة. الغبار يملأ ساحة القرية عند الغروب الصيفي، صخب الأولاد عاد، وعاد الضجيج لكنه ما لبث أن تلاشى كما الطرق المتشعبة التي فرغت وامتلأت ليلاً أسود. بهدوء مستسلم تغلق صالحة النافذة.
وفي الأفق البعيد، كانت الأرض تبتلع الشمس، وكانت السماء الحمراء تحتضن القرية والبيوت والأجساد والعالم كله» (ص62-63).
وعنست المرأة في قصة «مواجهات»، وصارت جدة مثل حرباء ملونة تعلم الحفيدات الصغيرات كيف يصبحن سعيدات وأمهات فاضلات. وقد أمعنت الرواية الغائبة العارفة بملاحقة أعماقها في تأثير الأوضاع الاجتماعية غير المنصفة على وجدانها المروع:
«في غرفتها، كانت وحيدة، بلباس نومها، أشعلت النور وتمددت على الفراش، كان النور يملأ فضاءها. ومن الخارج كان الليل يقف على النافذة، ويحجب الرؤية بعيداً. حركة ما في الخارج أثارت انتباهها وتكرر الصوت من جديد. لم تطفئ النور، ولم تغير من وضعها شيئاً، تقلب صفحة أخرى من الكتاب الذي تقرؤه لن يهمها الأمر في شيء.. فليراها من يراها.. المهم أنها هي لا تراه!» (ص83).
وبلغت مستوى أرقى في السرد الاستعاري في مجموعتها الثالثة «أجراس الوقت» (2000) التي تقارب قصصها مفهوم التحفيز الجمالي بطوابعه الذهنية حيناً والتحفيز التأليفي الذي يوائم بين تشظي السرد و تداعيات النص الغائب حيناً آخر.
بنيت قصة «أجراس الوقت» على التحفيز الجمالي وحوافزه الذهنية واستطالاتها في الحلم أو في الوهم أو في الكابوس. بدأت بوصفهما يسيران مسربلين بحلم صغير وضجيج صمت الروح يقهرهما، ليتوغلا أكثر في الليل والطرقات، وليفاجأهما حلم التسكع في ليلة باردة، فتتوارد الحوافز الذهنية:
«- قال: سآخذك إلى البحر» (ص4).
«- قالت:... في هذه المدينة عليك أن تدفع كي تجلس في حضرة البحر» (ص5).
«- قال: لنحلم بعودة البحر من حصاره، أو لن يبتلع ذات ليلة غضب هذا المزاد السخيف؟» (ص5).
- الوقت الذي يناهض الحلم: «... لنحلم!.. نفتح أذرعنا للحلم البري.. وهو المطارد في هذه المدينة الباهتة» (ص6).
- «كي يتكئ حلمك على وسادة من أمان» (ص6).
- هي سندريلا تخاف العري. هي القطيع المحاصر بالذئاب: «كي تصمت وتدع لها الليل والشارع والحلم و.. هو» (ص7).
أما الرجل فهو «الهارب من الحصاد والجدران» (ص، وله الفضاء كله، بينما تقفز مدينة إلى الفضاء (ص9)، وتتباعد صورة الفضاء والحلم: «وكانت قبضة حلم صغير قد أخفتها بين الأصابع المرتجفة وضجيج الصدر الضيق» (ص9) و«نامت الحكاية، تدثرت بمدينة باردة غافية بلا أحلام» (ص9). إنها وثبة حلم وهجمته تتناغم مع نداء الحرية الثقيل على التحقق.
تتلفع هذه الحوافز الذهنية بحافز واقعي واحد هو أنها نامت ليلة الأمس، وقد نسيت دفترها مفتوحاً على النافذة!» (ص9).
وثمة تداخل بين توهم المسير وتوهم الحديث وتوهم التابعة لاستنطاق وجهة النظر، فالمنظور السردي ينهض على الوصف الخارجي وانتظام مشاعر الحرية المكظومة في تحفيز يراد له أن يحتضن مراودة مخنوقة لفعل الانعتاق، وثمة تناص مع تشيخوف في مسرحيته «الشقيقات الثلاث» من خلال الولع برغبة البحر. وبلغ التناص مبلغاً مجازياً في أن امرأة تشيخوف بعيدة عن البحر، بينما امرأة رباب هلال عند البحر، ثم أُضيف إلى البحر ترميز هو مجاز عقلي «حصار البحر» على أنه سلعة قيد المزاد «عليك أن تدفع كي تجلس في حضرة البحر» (ص5).
وتنامى الفعل بوساطة الحافز الذهني «حصار البحر» المنبثق من مطاردة الحلم (ص6) إلى حافز ذهني آخر هو افتقار الحلم للأمان، ليغدو تنامي الفعلية برمته إلى استعارة من خلال معادلة الحرية قيد المكان، إذ له الفضاء حتى غدت المدينة بلا فضاء، ولها الدار والمطبخ وقيد التقليد، عندما تنغمر المدينة بالسواد «وأنا يطاردني السواد» (ص4)، وقيد الوقت الذي «يقتات ضفائر الأمان ويقصّ جدائل الحلم» (ص5). فصار المنظور السردي إلى رؤية استعارية قوامها إحساس متفاقم بفقدان الحرية «أنا القطيع المحاصر بالذئاب، هذا ما علقوه قرطاً في أذني» (ص7).
ويستند التحفيز الجمالي في قصة «يوميات الانتظار» إلى حوافز ذهنية كذلك متوالية عن الشرط الإنساني المزري للمرأة في بيئة ريفية من خلال وقائع يومية متكررة وتوهمات دائمة. هناك المرأة والأم والجدة، وثمة طقس الحمام (التطهير المادي) وطقس المزار (التطهير المعنوي) من أدران قد تحصل:
«وكما تكرر دائماً، لم تمس بعيب أية وصية من الوصايا العشر أو المائة» (ص17).
وأدخلت الحوافز المعنوية أو الذهنية في نسق تنضيدي حكائي قائم على مكابدة الواقع وتشوفه مثل استحضار عناء المرأة التاريخي من الرجل كما في أوامر البيت ويوم الأمر (ص22) وحمام الجارية (ص12-14-17)، وأسهم هذا الاعتمال بالطقوس والشعائر في منح الفضاء بعداً استعارياً، «فاليوم خمر وطعام ورقص وصرخات نشوة حادة تضعضع عظام الصبية وعظام القصر وعظام العبيد، والبقية الباقية. كل البقية مضعضعة أرواحهم بانتظار يوم الأمر» (ص17).
وتلوح الأسئلة مباشرة تحت وطأة القهر الإنساني للمرأة: «الروائح تختفي، البخار يتفصد في جسدي عرقاً، وأنا محشوة بالأسئلة، محشوة بالقهر، بالخجل، بعري تاريخي» (ص17).
وثمة حافز ذهني آخر هو خروج عمها عن العشيرة حفاظاً على «ماء الوجه» (ص23) الذي ينفسح إذلالاً ومهانة كل يوم، يجعلها تنتظر، ولا شيء إلا مرارة الانتظار والنكوص:
«الأصوات تناديني، تقتلعني، تشظيني، انحسر، تقلص، أصمت واتجه نحو البخور المتصاعد إلى الهلال في الربع الأخير الغربي من السماء الكالحة!» (ص23).
وتتناص قصة «إليك في الأعالي» مع الإنجيل ونصوص أخرى، من النداء القريب: بأنك، إليك، نداءك.. الخ، وتتكرر كاف الخطاب ستين مرة، وضمير «أنت» خمس مرات. وهو في الأعلى وهي ستصعد إليه، وكأن الصعود مقابل أو مواز للرحيل، وتكتمل البنية السردية الاستعارية بثراء الألفاظ التي انتقلت من مستوى التناص إلى المتعاليات النصية بمناداة ما وراء المعنى وبالاستفادة من الإحالات الكلامية، ونذكر منها انتظار الخلاص القذر أو الميؤوس منه، ولا نغفل عن تعارضه مع المنقذ والمقدس. وتتباين الدلالات: «منقذي وملاذي»، «محرابك المقدس»، «عشقك السرمدي» (ص29).
وتلوذ المرأة به: «حكاياك، أساطيرك.. الخ» (ص32).
إنه التوق إلى الخلاص مستمد من طابع أسطرة نجوى طويلة قاهرة مشحونة بوطأة الراهن ليوقع الشقاء والحزن والتعب على تشوفات الدنو منه ليصبح مثلها متعباً.
وتتحول الوقائع إلى معان في قصة «الثآليل»، ويتلبس التحفيز الذهني، على أن مكابدة الثآليل تؤدي إلى سوء الفهم أو التفاهم، وليست الثآليل هنا إلا تعبيراً مجازياً عن أوجاع الذات وتماهيها مع العلاقة بالآخر. وقد مسّ هذا التعبير المجازي تشظيات الزمن بقولها:
«ذات ضيق، وقفت بيني وبين الساعة الجدارية، نظراتها تأمرنا بالتوقف عن الانهمار والدوران، أو لنخفّف الوطء قليلاً.
همسنا لها أن هذا يعني: الموت. صَرخت في وجهينا، أصابع اتهام وجهتها لنا!
ليلتها، نامت على قرار!» (ص37).
وغطت العبارات جميعها والتركيب القصصي برمته بهذه التعابير المجازية مثل:
- «تعارفنا حين أول السؤال وأول الدهشة وأول الحلم» (ص42).
- «تحملّني عتاب الأمكنة والأزمنة» (ص46).
- «ذات ألم همست لي وبأنفاس متعبة» (ص47).
وانتقل مفهوم «الثآليل» من الحقيقي (انتفاخ البطن) إلى المعنى «لقد اكتشفنا الحبيبات التي تعلو قشرة الدماغ هي عبارة عن ثآليل» (ص48).
وغدت قصة «الصرخة» تعبيراً عن مدى اكتمال دائرة استعارة القهر ولبوس معنى انعدام حرية الرأي به، مستعملة الصوت مثيلاً للشخصية، ومدى علو الصوت/ الصرخة أو فوضاه متماهياً مع الموقف الإنساني، فقد حاولت جاهدة أن تبحث عن صوتها، بينما غلب على شعورها الإحساس الدوني بالمرأة وقهرها:
«نعق غراب أسود في أذني: «عودي إلى ملجئك، الليل قادم، عيب على الفتاة أن تتسكع في الشوارع!».
وأتساءل مردّدة: -«عيب؟ عيب!...».
والساعة مثل وحش تزأر ناشرة الليل والعتمة والسكون.
وإذن، ليس أمامي سوى العودة!
أمشي، أشعر وكأنني كتلةٌ دائريةٌ تتدحرج، وفي داخلها تلك الآهُ المستكينةُ، النابضة، المشعّة والباهتة، تدور لتعيد ما حفرته ذات زمن في القلب المتعَب وترسم دائرة حوله تقبع في الصدر، تنزّ وجعاً، لكنها لم تخرج بعد!» (ص51).
وتوالت صور ذلك في ذاكرتها وقيود الراهن، فالأب يضرب الأم لأنها تناقش، ولها رأي، و يصفها بالدودة (ص53)، والأم تضربها، وتصفها بالدودة، والمحقق والجلادون يضربون الأب في المعتقل لعامين مما أعاد له شيئاً من انسابيته، ويوجز انعدام حرية الرأي محك التجربة في وصف الأب لجلاديه استكمالاً لوصف دائرة القهر:
«الأوباش، أوامر، أوامر.. الويل لمن يناقش أو يجادل!» (ص56).
وختمت القصة بضرورة الصراخ لمواجهة القهر:
«أبحث عن صوتي، سأصرخ، لكني لم أسمع سوى آهةٍ واهنة، بينما كانت أصابعي تحاول التمسك بالجدار، سقط جسدي برخاوة دودة.