.
الخلاصة:
بعد تحليل هاتين العينتين يمكن أن نستنتج منهما بعض السمات التي يتميز بها التخييل الذاتي:
أ-المراسم الاسمية: لم يسم عبد القادر الشاوي الشخصية الرئيسة التي تضطلع، في الآن نفسه، بسرد الأحداث وبالدور الأساسي. كما أنه لم يسند لها أيه صفة جلية يمكن أن تحيل عليه شخصيا. تركها على عواهنها تسرد الوقائع ثم تشكك في مدى صحتها وسدادها. وفي مثل صيف لن يتكرر اتخذ محمد برادة شخصية حماد قناعا للتعبير عن قناعاته واستيهاماته بحرية وطلاقة والتحلل من القيود المفترضة. و كان يوقع مقالاته الصحفية في جريدة البلاغ المغربي بهذا الاسم المستعار إبان تضييق الخناق على حرية التعبير في منتصف الثمانينات بالمغرب. ونعاين في كلا الحالتين أن الكاتبين يضفيان طابع التخييل على هويتهما السردية، ويتخذان مسافة تلفظية تجاه ضعفيهما للتعبير عن مشاعرهما وأفكارهما واستيهاماتهما دون قيد، وترك تجربتهما الشخصية تنساب في شكل تداعيات حرة يمتزج فيها الحلم بالواقع.
ب- المراسم الجهية التخييلية: يعنى به "كل الوسائل التي يستعين بها المؤلف لتحديد السجل التخييلي لنصه، وكل العناصر التي يتوفر عليها لإثبات الطابع الخيالي لعمله والإعلان عنه"(34). وبما أن عبد القادر الشاوي كان واعيا بعدم وجود جنس يمكن أن يستوعب تجربته التخييلية فقد آثر عدم تجنيسها، مفوضا هذه المهمة إلى القراء المفترضين. وبعد أن أصبح مفهوم التخييل الذاتي متداولا، وجده عبد القادر الشاوي ملائما لوسم عوالمه التخييلية من طينة دليل العنفوان(35) . واحتار الناقدان (محمد برادة وعبد الحميد عقار) في تصنيف النص داخل الخانة الجنسية المناسبة. فمرة يصنفه برادة ضمن الرواية ومرة ضمن السيرة التخييلية. واعتبره عبد الحميد عقار عملا سيرذاتيا منزاحا عن الميثاق السيرذاتي المألوف. إن هذا الارتياب والتردد في تجنيس النص يؤشر على ارتياد آفاق جديدة يتساكن فيها الروائي والتخييلي، ويحتم مقاربة النص ومعالجته بتصورات ومفاهيم جديدة. وفي السياق نفسه، جنَّس محمد برادة عمله ضمن المحكيات وليس ضمن السيرة الذاتية رغم تبنيه لمشروعها ظاهريا، وذلك حرصا منه على تأكيد طابعه التخييلي، والتدليل على أن " واقعية الأحداث" لا تحول دون إضفاء أبعاد تخييلية عليها.
ج-ضمير الغائب: إلى جانب اتخاذ محمد برادة قناع حماد لسرد تجربته بطريقة غير مباشرة، فهو قد استخدم ضمير الغائب للتحدث عن ذاته " كما لو كانت شخصا أجنبيا أو إنسانا آخر"(36). ولم يكتف محمد برادة بذلك بل فوض هذا "الشخص الآخر" للتحدث باسمه الشخصي، مستعملا ضمير الغائب الذي يجرد الملفوظ من أثره الواقعي. وهو ما عبر عنه إميل بنفنست في هذا القول الموحي بدلالات عميقة :" ليس ضمير الغائب شخصا وإنما هو الشكل اللغوي الذي يضطلع بوظيفة التعبير عن " اللاشخص"(37) .
د-التردد: يتجلى في التباس الأنا بغيره على القارئ. إن إضفاء الكاتب الطابع التخييلي على ذاته، متوسلا صيغا وطرقا مختلفة، يربك القارئ في تحديد هويته السردية، ويجد نفسه كما لو كان يخاطبه بهذه العبارة الملتبسة: " أنا وليس أنا". هل حماد هو برادة نفسه؟ فيم يتشابهان ويختلفان؟ أسارد الجزء الأول أكثر ارتباطا بعبد القادر الشاوي وتعبيرا عن مواقفه الحقيقية أم سارد الجزء الثاني؟ ولم شكك السارد في صحة الأحداث المروية؟ إن هذا التردد بين الأنا والأنا الآخر يجعل القارئ مشككا في صحة ما يُروى، ومحتارا في تمييز الواقعي من الخيالي ،والحقيقي من الوهمي، ومرتبكا في أخذ ما تُعرض عليه من معطيات وحقائق مأخذ الجد