وهكذا يتضح أن الجزء الثاني ينهض بوظفيتين: إحداهما تتعلق بالتشكيك في صدقية المحتويات المروية، وتنبه القارئ إلى عدم تصديقها والاعتداد بها، وثانيتهما تهم استدراك الأخطاء التي سقطت سهوا وسجلها القلم في غفلة منه. وكلاهما يؤكد التباس الكتابة وتأرجحها بين المستوى الخيالي (أحداث مفتعلة من ضرب الخيال) والمستوى الواقعي (أحداث يُفترض أنها وقعت فعلا). قد يتبادر إلى الذهن أن الجزء الأول قد استوعب المادة الحكائية واستوفى حقه من التذكر، وأن الجزء الثاني لا يعدو أن يكون نصا ملحقا أضافه السارد ليعلق على بعض ما ورد فيما قبل. " ولكننا نتبين- بعد قراءة الجزأين والتأمل فيهما-أنهما يكونان نص هذه السيرة الروائية، وأن هذا الشكل وما ينطوي عليه من تقنية إنما هو نتيجة لتلك العملية المعقدة التي تصاحب الكتابة المحفوفة بالأسئلة والاستبطان وإبراز هموم السارد والحرص على إشراك القارئ في التقاط أواليات الحكي ونزوات الذاكرة وتداخل الفضاءات والشخوص"(24) . وفيما يلي بعض المناورات التي اعتمدها السارد-المؤلِّف لنقض الحقيقة المعلنة، ووضع صدقيتها موضع تساؤل واختبار.
أ ـ يتميز هذا الجزأ ،أسوة بسابقه، بتداخل محكيين وتقاطعهما: محكي يضطلع به السارد-الطفل، والآخر يرويه السارد-الراشد. ويختلف عنه في كونه، عموما، عبارة عن نص واصف Métatexte يعلق على ما سبقه، ويعلل ما تضمنه من هفوات وسقطات وحذوفات، ويزعم تقديم الوقائع " الحقيقية" التي لا تشوبها شائبة ولا ينتابها شك.
ب ـ يقوم السارد بإعادة أحداث السفر الأول للاضطلاع بما يلي:
-ملء الفراغات والثغرات ( لما وصل إلى الرباط أغفل ذكر إقامته بمنزل خاله وبفندق المحيط، وتولهه بخديجة، وعلاقاته المتينة برشيد الوداني..).
ـ تصحيح بعض الحقائق (أقمت في بداية الشتاء في مسكن متواضع يطل على الجوطية.. تصنع وحذلقة، كأنني كنت أملك حريتي...أنتقل بها في الوهم من المستحيل إلى الممكن..إن هي إلا أكذوبة خضراء" ص64.
ـ تعليل عدم القدرة على إدراج بعض المحكيات في المسار الحكائي العام (ماذا فعل المأمون بعد رجوعه إلى ملهى صباه بشفشاون؟ ما مصير مصطفى الإدريسي الذي رهن مستقبله كصحافي لولاية السنوسيين بعد الانقلاب؟).
ـ إدماج مقاطع حكائية غير معروفة ( زيارة السارد- برفقة والدته وأخته والسي محمد الناية وأخته المترملة وبنتيها ربيعة وخديجة- لضريح مولاي عبد السلام، ووقوعه في شرك حب أمينة، والكشف عن علاقته الحميمة بالحاج الطيب).
ـ دعم الجانب التخييلي باعتبار الشخوص مبتدعة ووهمية، وتعديل التواريخ، واستحضار الأحلام والاستيهامات، ومساءلة أحداث توارت ثم انقشعت بعد أن تحررت من قبضة النسيان.
ج ـ تكثر في السفر الثاني مقاطع استرجاعية تروم إعطاء نظرة شاملة عن سوابق السارد. وتطال هذه المقاطع مدى المفارقة ( المسافة الزمنية) الذي يستغرق أعواما متعددة من سنة 1953 ( معلمة زمنية قريبة من ولادة السارد-المؤلف) إلى سنة 1969 ( تأزم القضية الفلسطينية، واشتداد حدة الصراع بين بعض مكونات الحركة الطلابية بجامعة محمد الخامس في الرباط، ووقوع الانقلاب في ليبيا). وتتفرع عن السرد الأصلي بنيات زمنية استشرافية تثير أحداثا سابقة عن أوانها أو يمكن توقع حدوثها. وتتشخص في دليل العنفوان من خلال تمهيد ( Amorce) عديم الدلالة يستدعي مشاركة القارئ ويستحثه على الترقب والتنظُّر. لكن سرعان ما يتحول هذا التمهيد إلى مؤشر زمني يسهم في تحديد مدى المفارقة ( من لحظة الاعتقال إلى لحظة التلفظ). وإن كانت هذه المدة الزمنية غير معلومة وتحتاج إلى تأويل لقياسها، فهي تبين أن عبد القادر الشاوي قضى مدة طويلة في السجن استغلها من بين أشياء أخرى- لاستحضار تجربته في الحياة، وإعادة تأملها من أجل فهم أسرارها وفك ألغازها.
2- 2- معضلة صورة اللغة: استثمر السارد-المؤلِّف إمكانات الكلام المهجور بالمتح من النصوص التقليدية، وأسلبة النصوص المقدسة والخطابات الترسلية بطريقة ساخرة. إن هذا النوع من الأسلوب واللغة يحققان تباعدا عن الأحداث، ويتيحان الحديث عن فترة زمنية قريبة وكأنها تنتمي إلى ماض موغل في القدم. لقد جعلت طرائق الأسْلبة الواعية السارد-المؤلِّف يختبر إمكانات اللغة المُؤسلِبة، ويغربل مفرداتها لكي تصبح مدرجة ضمن مواقف جديدة، ومسربلة بصورة شعرية باذخة. وظل وفيا لمقصدية التأنق اللغوي وللغة الواحدة والوحيدة التي تنهض على رؤية جماعية للعالم. وعلى الرغم من إدماج بعض الملفوظات الهجينة (كلمات من العامية المغربية) والأجناس المتخللة( الرسائل والتقارير والمحاضرة والشعر..)، فإننا لا نحس بكلام الغير بوصفه ظاهرة كاشفة عن " معضلة صورة اللغة" ومدخلا لالتقاط العينات الإيديولوجية. وهذا ما جعل اللغة الأحادية تبلور رؤية جماعية متدرجة من السلفية (التشبث بالعقيدة الإسلامية) إلى التغريب (الانجذاب إلى المذهب الماركسي-اللينيني). وهي رؤية تستجيب لتطلعات السارد نحو التغيير وإقامة مجتمع لا طبقي. وإن كان السارد-المؤلف يوهمنا بأنه وضع أفكاره " السالفة" موضع تساؤل، فإنها تظل منغرسة ومتغورة في لا شعوره، وفاعلة في توجيهه وتحسيسه بانشطار هويته وضياعه واستلابه.
2- 3- تم تكديس النص بشخصيات مرجعية تنتمي إلى الحقل الأدبي ( جبران خليل جبران، ومحمد الطبال، وميخائيل نعيمة) أو السياسي ( علال الفاسي، والتهامي الخياري، وعمر بنجلون،و ليفي شمعون) أو الفلسفي ( ماركس، ولينين، ونجيب بلدي، ورشدي فكار) أو الديني ( التهامي الوزاني،و عمر مفتي، والشيخ محمد أبي زهرة، ومولاي عبد السلام..) أو الغرامي ( فاطمة السلامي، وزكية العمراني، وخديجة ابنة عم السارد-المؤلف). " وباندماج هذه الأعلام في النص، فهي تشتغل بوصفها إرساء مرجعيا يحيل على النص الكبير للإيديولوجيا أو للرواسم الثقافية"(25) . و وتضمن ما يسميه رولاند بارث بأثر الواقع. وترد أحيانا مقرونة بألقاب دينية أو اجتماعية، مما يبين مدى حرص السارد-المؤلف على جعل السياق الاجتماعي ملازما لبنية النص، وعلى توظيف كل ما يمكن أن يدعم المعطيات القيمية والتثمينات الاجتماعية. ولم يتوقف هذا الصنيع على الشخوص بل تعداه إلى استحضار أحداث اجتماعية وسياسية ساحنة ( هزيمة العرب سنة 1967، وحدوث الانقلاب في ليبيا، واستفحال ظاهرة الاعتقالات السياسية بالمغرب في منتصف السبعينات)، وإلى عقد الصلة مع فضاءات أيقونية ( الرباط، باب تازة، سفشاون، العرائش، طرابلس)، وإلى ذكر بعض الكتب والصحف ( المكتبة النصية Bibliotexte) التي أسهمت في رسم المسار الفكري للسارد-المؤلف. لقد موهت هذه لآثار الواقعية نتيجة توظيف خدع التشخيص التي سبق ذكرها، وتبديد الوهم المرجعي، وإعطاء الأسبقية للتقنيات الآتية:
ا ـ لا يتعامل التزمين(Temporalisation ) الكتابي مع المرجع في تزامنيته بل بطريقة تجزيئية وتتابعية. وهذا ما جعله يدخل في علائق سطرية ( أثر الترتيب) وفي علائق عبر سطرية (الترابطات المتباعدة). وبقدر ما يحصل تباعد زمني معه تتلاشى بعض ملامحه، ويتعذر استعادة المشاعر المرتبطة به.مما يتيح فور استحضاره إضفاء أبعاد تخييلية عليه، ومساءلته انطلاقا من وعي وطموح جديدين.
ب ـ يتجلى التشخيص الذاتي (Auto-représentation) في دخول النص في صراع مع ذاته ليدحض فكرة الحقيقة المطلقة والنهائية، ويفرض إيقاع التحول عبر آليات الارتداد والتصحيح والإضافة والحذف، ويأخذ منحى معاكسا للإطار الإيديولوجي الجاهز، ويتمرد على التصنيفات المتعسفة والمطابقات المختزلة، و يجعل النص يحيل على ذاته عوض أن يحيل على خارجه.
ج ـ تعمل الكتابة الجياشة(Ecriture effervescente) على تحطيم المعرفة المطابقة للواقع، و توليد الصور الشعرية المنزاحة عن اللغة المتداولة، و توسيع مجال الحرية لمزج الحقيقة بالخيال وإضفاء تلوينات من السخرية اللاذعة على كل ما هو جدي ومقدس، و الارتقاء بالكتابة الشاهدة على التمزق والعذاب والانبهار إلى مستوى تجديد الأشياء والمخلوقات وابتداع شخصيات ومحكيات وتخييلات ،واستجلاء ملامح المسكوت عنه، واستكناه الحقيقة الراسخة في ثنايا الخيال وتضاريسه الملتبسة.
3- مثل صيف لن يتكرر: لعبة الذاكرة وغوايتها.
تتخذ لعبة التذكر في الأعمال التخييلية لمحمد برادة أبعادا وتجليات مختلفة. تستدعي لعبة النسيان(26) لعبة أخرى(لعبة التذكر) لإضفاء طابع التخييل على ما هو "واقعي" ، وتلوين الحقيقة بأصباغ خيالية. وترتكز رواية الضوء الهارب على لعبة التذكر لإضاءة الجوانب المظلمة في حياة الشخوص التي تتربع على عرش الحكي (العيشوني، وفاطمة ، وغيلانة). في امرأة النسيان يعمد برادة على بعث شخصية (ف. ب) من مرقد العمل الأول، وتسليط مزيد من الأضواء على حياتها، وإبراز طبيعة العلاقة التي كانت تجمعها بالسارد. يستعيد حماد في مثل صيف لن يتكرر لحظات من مساره التعليمي والفكري، ويحتفي بلعبة الذاكرة لاستجماع خيوط ماضيه الشخصي، ورتق ما تلاشى منها، وفتلها من جديد لتسترجع نضارتها وبريقها في حلة تخييلية.
3-1-جنسية المؤلف:
ما يشد الانتباه في العمل الأول لعبة النسيان والعمل الثالث مثل صيف لن يتكرر(27) لمحمد برادة، هو أنه وسم كل واحد منهما بجنس قد يثير جدلا حول مدى انسجامه مع طبيعة البنية الحكائية التي مزج فيها ذكرياته بوقائع مستوحاة من الخيال . مع العلم أنه ناقد ملم بنظرية الأجناس الأدبية، ويحرص في بعض دراساته النقدية على إبراز مدى التزام الكتاب بالتعيينات الجنسية التي أثبتوها على أغلفة كتبهم. إنه- باختيار الكتابة في جنس ما- يستدعي القارئ المفترض لمشاركته في لعبة الكتابة، وحفزه على إبرام ميثاق مشترك، وتبني اختياراته الحكائية ، والتواطؤ معه في إضفاء الشرعية على مواضعات الجنس، والاستئناس بها في قراءة العمل التخييلي.
لقد وسم لعبة النسيان بالرواية. في حين لما نعيد قراءتها يتضح التقاطع الحاصل بين الجانبين التخييلي والروائي. فإلى جانب أنها تتضمن وقائع مستوحاة من الخيال، فهي تحفل أيضا بأحداث مسترجعة تقاسمها الكاتب مع شخوص موسومة بأثر الواقع. إن الجنس الذي يلائم إلى حد ما طبيعة المواد الحكائية في لعبة النسيان هو الرواية السِّيرْذَاتية.
يتضمن نص مثل صيف لن يتكرر التباسات قد تؤثر في منزلته داخل خانة جنسية محددة. اختار له الكاتب تعيينا جنسيا (محكيات) معتادا في التقليد الفرنسي لبيان طبيعته وتحديد مقروئيته. ويتصل هذا الجنس عموما بأحداث عاشها الكاتب، لكنه عندما يهم بسردها، يجد نفسه مشدودا إلى رصد تفاصيل الواقع الذي يوجد به. و تتحدد بعض معالم هذا التجنيس في الإهداء الذي خصه الكاتب لمن جمعته به علاقة حميمة بأرض الكنانة، إذ يتبين أن الأمر يتعلق بمحكيات عن مصر. من خلال هذا الصنيع، يتضح أنه تعمد خلق مسافة بينه وبين المحكي، وإثبات أن ما يسرده لا يتعلق بتجربته الشخصية (الانفصال عن الذات)، وإنما يمت بصلة إلى ما يقع في مصر من أحداث تاريخية وتجارب إنسانية، وما تتميز به من مآثر وبنايات وفنون. وإن تحدث عن ذاته فإنما ليبين أن تجربته هي جزء صغير مما يمكن أن تستوعبه مصر من أحداث كثيرة وتجارب ثرة وحيوات متضاربة.
وفي الكلمة المثبتة على ظهر الغلاف يصرح الكاتب بأن ما يتضمنه النص هو جزء من ذاكرته التي انتسجت خيوطها خلال إقامته في مصر (متابعة دراساته العليا) أو زيارتها بانتظام. وبما أنه يركز على سرد مساره التعليمي والفكري، فحري به أن يصنف عمله ضمن السيرة الذاتية الذهنية.لكن تأرجح العمل بين الرواية (تشخيص وقائع مختلفة تهم مصر) وبين السيرة الذاتية (استرجاع المسار الفكري) يحتم إعادة تصنيفه ضمن التخييل الذاتي (تقاطع الخيالي بالواقعي)(28).
3-2- ضمير الغائب والاسم المستعار:
اعتاد كتاب السير الذاتية أن يستعيدوا ذكرياتهم وتجاربهم بضمير المتكلم، وأن يثبتوا أسماءهم جزئيا (الاسم الشخصي أو العائلي أو حرف يحيل إلى واحد منهما) أو كليا (الاسمان معا). وتخرج أعمال كثيرة عن هذه القاعدة، ومن ضمنها مثل صيف لن يتكرر. حكى السارد-المؤِّلف جزءا كبيرا من ذكرياته وتجاربه بضمير الغائب وباسم مستعار. وابتداء من الصفحة 134 انتقل من سرد ذكرياته بضمير الغائب إلى سردها بضمير المتكلم. ومع ذلك يظل القارئ - بحكم انسجام النص واتساقه- متوهما أن حماد هو المسؤول عن هذه الانتقالة النوعية لتجريب صيغة أخرى في استجماع خيوط ماضيه الشخصي . ومن يتابع ما كان ينشره برادة في جريدة البلاغ المغربي يعلم أنه كان يوقع مقالاته بالاسم المستعار نفسه. " فالقص بضمير الغائب واللهجة التهكمية والاسم المنتحل كلها تدل على احتياج الكاتب الشديد إلى الانفصال عن ذاته الماضية"(29). فما يتوخاه الكاتب من الابتعاد عن ذاته- بالإضافة إلى النظر إليها من الخارج- هو إيهام القارئ بأنه يتحدث عن شخصية ليست إلا ضربا من ضروب الخيال. وهذا ما يسعف- من بين أشياء أخرى- على فسخ الميثاق السيرذاتي. وإن عاين القارئ تشابها بين الشخصية المستعارة وبين الكاتب، فإنما هو وليد الصدفة والاتفاق لا غير. وقد تنطلي الحيلة على أعداد كبيرة من القراء في حالة ما إذا كان الكاتب غير معروف. فأغلبهم سيتعامل مع الشخصية المستعارة على أنها شخصية خيالية. وبما أن برادة شخصية معروفة، فهم -إبان قراءة العمل -سيعاينون مدى انكسارréfraction كثير من تمفصلات حياته الفكرية بين ثناياه ." إذ السيرة الذاتية تحوي بين دفتيها كل ما سبقها وتفسره وتبرره، وهي إلى ذلك تتويج للأعمال أو للحياة التي قدحت شرارتها" (30).
3-3-لعبة الذاكرة:
مهما كانت ذاكرة المرء قوية، فهو لا يستطيع أن يسترجع ذكرياته بدقائقها وتفاصيلها. فهناك أمور تغيب تماما عن الذاكرة، وتغشاها غشاوة النسيان (النسيان الطبيعي). ويمكن له أن يسترجع بعض ملامحها لما يذكره صديق بقرائنها أو يجد في حوزته ما يحيل عليها ( رسالة، مذكرة، وصورة، وخاطرة،و كراس). وهناك أمور أخرى يقصد نسيانها وكتمانها ( النسيان المتعمد)، ويمارس رقابته الطبيعية عليها لأنها تمس كيانه الداخلي وقد تؤذي غيره ممن شاركه قسطا من حياته(31). ولما يعيد ذكرياته، فهو يقدمها في حلة أخرى، وبترتيب مغاير، ومن زوايا جديدة " تهدم وتبين حسبما يلائم تجدد الظروف وتغيرها، وتجد التعليل والمعاذير لأشياء سابقة، لأنها في عملية كشف دائم؛ ومعنى ذلك أن الماضي شيء لا يمكن استرجاعه على حاله، ولا مناص من تغييره بوعي أو بغير وعي"(32).