2- دليل العنفوان: التشكيك في صدقية الذكريات.
رغم افتراش عبد القادر الشاوي مَدَر النقد، فلقد تقصد عدم إثبات أي مؤشر على غرة الغلاف يجلي انتساب المؤلَّف(21) إلى جنس أدبي ما. فهل استهدف من هذا الصنيع تحطيم الحدود الوهمية التي تأسر النص في خانات مقننة أم تفويض مهمة التصنيف أو التجنيس إلى قراء مفترضين؟ ضمن هذا السياق نورد قولتين نقديتين تجنسان النص وفق معايير محددة. يقول محمد برادة:" ليست دليل العنفوان إذن سيرة ذاتية بالمعنى المألوف لأن شكلها وتقنيتها المركبة يكشفان عن علاقة معقدة بين ذاكرة السارد وسجل الأحداث المعيشة التي تعاقبت عليه في فترة من حياته.. نعتبر دليل العنفوان سيرة تخييلية تستوحي أحداثا عاشها السارد-الكاتب في مرحلة من عمره. ولكن، وهو يحاورها وينسج منها مناخا وشخوصا وفضاء، يضع مسافة بينه وبينها ويبرز شكوكه في صحة بعض ما رواه، ويقر بالإضافات و الحذوفات التي يقتضيها تأليف الكلام وإعادة تكوين التجربة على أساس من وعي التحولات الحاصلة في الذات وداخل المجتمع"(22). ويؤكد عبد الحميد عقار ما يلي :" دليل العنفوان نص سيرذاتي. شخصية السارد فيه تتماهى كلية مع شخص المؤلف، وضمير المتكلم يهيمن في تصريف الكلام وتوجيهه...وحتى عندما يكون الآخرون هم مصدر التلفظ يظل السارد-المؤلف في موقع البؤرة: إليه يوجه الكلام، وبسببه وعنه يقال، هو ذات الكلام وموضوعه في آن واحد، وهو من يقوم في البدء والمنتهى بوظيفتي التنظيم والتأويل.. والظاهرة اللافتة للنظر في سياق هذا الانزياح لدليل العنفوان عن الميثاق السيرذاتي المألوف هي المتصلة ببناء السرد وبخصائص لغة الخطاب فيه. فالنص يخرق الدقة الكرنولوجية المفترضة في أي سيرة ذاتية ويكسر خطية الزمن تبعا لذلك"(23). من خلال هاتين القولتين يتضح أن نص دليل العنفوان ينزاح عن المواضعات السيرْذاتية المتعارف عليها، ولم يتقيد بالسجل المرجعي لأن الكاتب أضفى طابع التخييل عليه ، واستسلم ل" تداعيات مبتذلة" لتزييف الحقائق، ورتق الذكريات الوهمية، ومعاودة النظر في الماضي الشخصي في ضوء سياقات تداولية جديدة، وتحويل الواقع المستعاد إلى سيرة تخييلية.
فبقدر ما نتوغل في النص تنحل الخيوط التي ينسج بها عبد القادر الشاوي عوالمه التخييلية، ويكون منها فسيفساء تجاربه الذاتية. يعيد الكاتب بناء ما عاشه من أحداث بتلقائية، لكنه ينتقي، بتلطف وحذق، المشاهد الأكثر دلالة، و يقتنص اللحظات الهاربة التي تكشف عن عنفوان الذات ومرحها من جهة، وعن معاناتها من محن الحياة ودواعي الدهر من جهة أخرى . وبما أن الماضي المفقود والهارب قد استحال إلى ذكريات مفتتة ومتشظية، فإن استحضاره من جديد لا بد أن يتسم بنفحات الحاضر وقبساته، ويتغذى بما طرأ على الواقع من تبدلات جوهرية، ويفضي إلى تعايش وتساكن الأزمنة المختلفة وإقامة علاقات بين الأحلام والهواجس المنفلتة من عقالها و بين الاستيهامات المكبوتة والتطلعات المحبطة. وما زاد من تعتيم الماضي والتشويش عليه، والتشكيك في صدْقية أحداثه (بالإضافة إلى تعذر استرجاعه على حاله ب"صدق وأمانة")، لجوء عبد القادر الشاوي إلى ممارسة خدع التشخيص الأدبي، وإيجاد المعاذير والتعليلات لأحداث سابقة، وتضعيف البنية السردية على نحو يمكن من تنامي الموضوعات المختلفة ، وزرع مرايا نصية متعددة لمعاينة مختلف حالات الذات و ِوضعاتها، وتنويع ضروب الحذف والنسيان والمراجعة، وتشبيك الفضاءات والأزمنة.
2-1 - بنية النص : قسم الكاتب النص إلى جزأين: الخلطاء ثم اللغو والتأثيم.
2-1-1- أهدى الجزأ الأول إلى ليلى الشافعي. وسماه بالخلطاء أي القوم الذين أمرهم واحد، وهم ـ وفق سياقات النص ـ الأصدقاء الذين قاسموا السارد همومه وتجاربه (على نحو مصطفى الإدريسي، وأحمد برهوم، والمامون، ونزهة..). وتميز هذا السفر باستخدام تقنيات خدع التشخيص التي تجعل المروي ينفلت من الإرغامات المرجعية، و يثير تساؤلات حول جدوى الذاكرة وصدقيتها. وتتجلى بعض مظاهر هذه الخدع فيما يلي:
أ ـ عملت الآثار المموهة(Effets pervers) على فلسفة الأحداث الماضية والنظر إليها من زوايا أخرى، وأسهمت في تحلي النص بالصور الشعرية والأساليب العتيقة والتعابير المتأنقة والمزدانة بألون التحاسين. جعلت هذه السمة الفنية الشاوي يحدث قطيعة مع الطابع التقريري الذي وسم عمله الأول كان وأخواتها ، ويقيم مسافة نقدية مع الواقع لنقل تجربته الشخصية من مستوى الشهادة إلى مستوى التخييل.
ب ـ يتفرع الجزء الأول إلى مقاطع مرقمة ومعنونة تتجمع في مسارين حكائيين متشاكلين: أحدهما يخص التجارب التي عاشها السارد-المؤلف بفضاء تطوان، وثانيهما يهم ما استوحاه من تجارب أخرى في فضاء الرباط. وتتخلل هذين الفضاءين فضاءات عابرة تكشف عن ارتياد آفاق بعيدة (سفر مصطفى الإدريسي إلى ليبيا) وعن منبت الغرس (باب تازة) وعن الشطحات الصوفية ( مزار عبد السلام بن مشيش في نواحي العرائش) وعن النضج الفكري والإيديولوجي للذات ( إلقاء محاضرة في موضوع التخلف والتنمية في شفشاون).
قبل حصول السارد-المؤلِّف على شهادة الباكلوريا، مكث بتطوان، وتردد على ثانوية القاضي عياض ومقري الاتحاد المحمدي للأمداح النبوية وجمعية البعث الإسلامي. تستوعب هذه الفضاءات لحظات استذكارية، وتكشف عن الأهواء والميول المترسبة في أعماق الذات، وترصد تكونها الإيديولوجي ومسارها الفكري، وهي تبحث عن الامتلاء والتوازن. وفي هذا المضمار، تعرف السارد-المؤلِّف على بعض الدعاة الدينيين (الوزاني والكويرة والمفتي) الذين أسهموا في تنوير عقله، وفتح عينيه على تعاليم الدين الإسلامي السمحة. ومما زاد من ترسخها في ذهنه ارتباطه برفاق ( برهوم وبن صالح والورياشي) يوقرون الشخصيات الدينية البارزة، وينظمون أنشطة ثقافية للتعريف بتعاليم الدين الإسلامي واستقطاب عناصر جديدة، ويبحثون عن كل ما يروي غلتهم من الثقافة الإسلامية ( على نحو مراسلتهم الشيخ محمد أبي زهرة على عنوانه في الأزهر الشريف لمطالبته ببعث مجلة " منبر الإسلام " إلى مقر جمعيتهم بصورة منتظمة)، ويتصلون ببعض الوجهاء طالبين التبرعات.
ولما حصل السارد على شهادة الباكلوريا حل بالرباط لإتمام دراساته العليا (التسجيل في شعبة الفلسفة، ثم ولوج المدرسة العليا للأساتذة). وفي هذا الفضاء، أتيحت له الفرصة لتعميق علاقاته مع طلبة قادمين من شمال المغرب،والتشبع بالماركسية-اللينينية والتخلي عن مبادئه القديمة. ويتحمس- من خلال انخراطه في الإتحاد الوطني لطلبة المغرب وحزب التحرر والاشتراكية- لخوض نضالات عاتية في أفق بناء مجتمع خال من الفوارق الطبقية. وبفضل صديقيه مصطفى الإدريسي ومحمد الرطوبي أصبح فاعلا في الحياة السياسية وواثقا من مؤهلاته وإمكاناته الذاتية. فهما اللذان حفزاه على نشر أولى كتاباته في منابر العلم واللقاء والكفاح الوطني، وعملا على توريطه في إدمان القراءة ومداومة النشر بانتظام.
نعاين في نهاية الجزء الأول أن ثقافة السارد قد نضجت، فبدأت تجد صداها في بعض المدن المغربية. وهكذا استدعته جمعية ثقافية في شفشاون لإلقاء عرض حول التخلف والتنمية. ونتيجة دفاعه عن الطرح الماركسي، أثار حفيظة أحد الحاضرين الذي انتقده مرددا هذه العبارة : " هذا كلام مستورد أيها الإخوان"، وبدأ يشرح معنى كلمة "الاستيراد" بلهجة ساخرة. " وهل يحسب الأخ المحاضر نفسه خطيبا في إذاعة موسكو، حتى أتى على بنات أفكاره بتفصح وخطابة" ص 63.
ج ـ تتحدد المفارقات الزمنية بموازاة مع السرد الأصلي، وتتنوع بفعل تكسير منطق تتابع الأحداث وإدماج وقائع منزاحة سواء بالإيغال في الاسترجاع أو بالإحالة على أحداث قادمة. وما يلفت النظر أن الأحداث التي وقعت بالرباط تقدم نوعا من التطابق بين السرد والقصة. فلقد تمت رواية المحكيات المتشذرة على نحو متزامن بإيقاف أو تعطيل حدث ،وتحريك وتسريع حدث آخر. وبناء عليه، نهضت المفارقات الزمنية المختلفة بتشذير السرد وإحداث اختلالات تركيبية في سيرورة الأحداث المُحيَّنة وإعادة تكوين التجربة المعيشة على أساس الانقطاع والتوازي. تشمل الاسترجاعات المتماثلة حكائيا المقاطع الاستذكارية لتدارك المواقف المحذوفة أو المهملة، وسد الفراغ الذي حصل في المسار العام للقصة، وهي تضطلع في دليل العنفوان بإضاءة الجوانب الداجية من سوابق السارد، وبالانفتاح على بعض التحولات الاجتماعية والسياسية. وهكذا تخبرنا عن الهجرة الاضطرارية لوالد السارد-المؤلف من بياضة إلى تطوان على عهد الحماية، وتستحضر الخطابات الحماسية التي كان يبثها علال الفاسي لإيقاظ همم الوطنيين وحثهم على النضال لفرض مطلب الاستقلال، وتحيل على الأجواء الدراسية بثانوية القاضي عياض في تطوان والأنشطة الثقافية والسياسية في رحاب الجمعيات الدينية، وتوقظ الأحاسيس الغرامية الأولى التي كانت تتسم بالصفاء والعفة والأنفة، وتنتشي بأحاسيس طفولة هاربة وعصية." بعيدا بعيدا كنت أعرف أن هناك مهبط الوجدان: باب تازة. إلى الحمام أولا. كان يقول والدي وهو يجرني خلفه كالطفل المشدوه. حمامه المفضل يقع في منتهي الساحة قريبا من الكوميسارية" ص 61.
د ـ يعطي السارد انطباعا عاما مفاده أن ما يحكيه نابع من ينبوع الصدق. لكنه تعمد توكيد مدى صعوبة فهم الأوهام الإنسانية في نص مواز (ص4)، ووظف عبارات حكائية واصفة ( على نحو " طفولة منتقاة مستعارة"، و" قصة مستعارة"، و" استعادة سائبة") لتقويض قواعد الميثاق السيرذاتي، وتمويه التجربة المعيشة، وإضفاء طابع التخييل على الأحداث والوقائع المسترجعة. وهذا ما دعم خدع التشخيص ومناوراته، ووسع الهوة بين الذات وضعفها، وبين صحة الأحداث ونزوات الذاكرة.
2-1-2- أهدى الشاوي الجزء الثاني إلى سعيد البشري. ويتضمن هذا الجزء عنوانا مركبا من وحدتين دالتين: اللغو والتأثيم. فمن جهة، تقصد القائم بالسرد إعادة أحداث بعينها لتأملها وفحصها وإعادة النظر في محتوياتها ، والتجأ ،من جهة أخرى، إلى التنقيح لتقويم الاختلالات وتقليص التفاوتات والمفارقات، وسد الثغرات والفُرجات، والكف عن ارتكاب المغالطات الوهمية. وظف السارد-المؤلف اللغو أكثر من مرة لتأكيد مدى عجزه عن قيادة الحكي وفق إرادته وعزيمته، وتنصله من انسيابه في "تداعيات مبتذلة" تفضي إلى حقائق لم تكن في الحسبان. " الحق أقول وها قد جرنا الحديث إلى واد آخر- لقد ضاق صدري ولم تفض نفسي، ازدحمت الوقائع في ذاكرتي ولم تتنفس لغتي، إن هي إلا اللغة اللاغية. ليس لي عليها حق و ليس لها علي بلاغة، وكان يجب أن أكتب شيئا فخرج هذا الشيء في سطور فاحمة، مسنونا حادا في طور، رخوا لزجا هولاميا في طور آخر. أوحيت بالواقع المكين، ولكنني-كشأن كل كاتب رددت عليك تداعيات مبتذلة. طفولة فيها اعتياد الأيام جريانها السائل، وشباب دون حد الشباب المنطلق" ص 74. وكان يسعى من لعبة التأثيم إلى الكف عن آثامه ( اختلاق وقائع وافتراؤها) وممارسة طقس من طقوس التكفير للتظاهر ، أمام الملأ، بقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.
وهكذا يتضح أن الجزء الثاني ينهض بوظفيتين: إحداهما تتعلق بالتشكيك في صدقية المحتويات المروية، وتنبه القارئ إلى عدم تصديقها والاعتداد بها، وثانيتهما تهم استدراك الأخطاء