قام الباحثان بجرد الأعمال التي يمكن أن تدرج في إطار التخييل الذاتي(15)، ولم يعتمدا في جردها على اعتبارات جمالية، وإنما ركزا أساسا على قواعد اشتغالها الجلية. وأقصيا منها كل الروايات التي توسم بالسيرة الذاتية لكونها تتضمن افتراضا مواد من التجربة المعيشة للكاتب، كما استبعدا سلسلة من الروايات التي يسمى فيها اسم الكاتب باسم مغاير. ويتميز التخييل الذاتي ، في نظرهما، بالسمات الآتية: يشار إلى اسم الكاتب أو يعلق عليه، توظف ألقابه غير المعروفة، إن وجدت علاقة بينه وبين الشخصية فهي من باب الصدفة، استعمال ضمير الغائب. إن التخييل الذاتي هو " نسج مجازف للسيرذاتي والخيالي والواقعي والاستيهامي" (16) .
ويخلصان إلى أن معالجة اسم العلم تعد أحد معضلات التخييل الذاتي كما هو الشأن في السيرة الذاتية ( بمجرد أن يحرف اسم العلم يبدأ التخييل)، ويجملان ما يميز التخييل الذاتي من الرواية والسيرة الذاتية في القول الآتي: " التخييل الذاتي جنس سمج أساسا، يبحث عن طريق بين نذالة ( ترفض في وجه الناس أسماؤهم العائلية والشخصية) ومكر(يسمح للتعرف عليها من خلال حاجز واق). تكون الرواية أكثر ملاءمة عندما تحل اسم برداموBardamu محل سيلين Céline، وجيلGilles محل دريوDrieu، ورينييRainier محل كاريGary، وسارد غير مسمى محل بروستProust. وتكون السيرة الذاتية أكثر أمانة عندما تتحمل مسؤولية الكاتب على سرده، والطابع الصريح لملفوظاته"(17).
1- 5 رصد فليب لوجون تطور المفهوم في شكل مسرحية من خمسة مشاهد:
أ ـ المشهد الأول،1973: يجري هذا المشهد في صالون الميثاق السيرذاتي الصغير والمربع. اقترح فيه فليب لوجون جدولا يحدد الهوية السردية في الرواية والسيرة الذاتية، وترك خانتين فارغتين لصعوبة ملئهما بما يلائمهما. ومن بين الأمور التي حيرته هو إمكان وجود بطل روائي يحمل اسم الكاتب. ولم يخطر على باله لحظتئذ أي مثال عن هذه الحالة.
ب ـ المشهد الثاني ،سيرج دوبروفسكي 1977: لما كان يُعتقد بأن المنزل مغلق بعد سد نوافذه بإحكام، ظهر من يريد أن يحتله(Squatter). كان سيرج دوبروفسكي منشغلا في كتابة نص يجهل معالمه، ويتعذر عليه أن يجد خانة جنسية تناسبه. ولهذا ارتأى أن يملأ خانة فارغة، و يقترح لها اسم التخييل الذاتي . وأثبت الاسم نفسه على ظهر غلاف عمله الابن. وبعد نشر هذا العمل انكب على تحديد المنزلة النظرية لمشروعه. ويقتطف فليب لوجون نصا من رسالة كان قد وجهه إليه سيرج دوبروفسكي ليخبره عن حيرته في تصنيف عمله المشار إليه أعلاه، وإقدامه على تجنيسه ضمن خانة التخييل الذاتي.
ج ـ المشهد الثالث،1984: لاحظ البواب أن المنزل أغلق خطأ لوجود سكان بداخله. بين جاك لوكارم في دراسة له بالموسوعة العالمية أن الخانة لم تكن فارغة لوجود من يشغلها ( على نحو سلين،و مالرو، وآخرون) ولكونها أصبحت، منذ سنة 1970، غاصة بأسماء أخرى( على نحو موديانو، بارت، كاري، سولرس..). وأصبحت، مع مر الأعوام، تستقطب الكتابات التي تتموقع بين السيرة الذاتية و بين التخييل غير السيرذاتي. وهي عبارة عن أشكال نصية واستراتجيات شخصية يستوعبها جنس مبهم ( التخييل الذاتي).
د ـ المشهد الرابع 1989: يُشيد منزل آخر في الجهة المقابلة، وتُعرض في صيوانه بضاعة جديدة. أعاد باحث شاب فانسون كلونا النظر في المشكل الذي أثارته الخانة الفارغة، واقترح تعريفا للتخييل الذاتي ( عمل أدبي يسعف الكاتب على خلق شخصية ووجود محافظا على هويته الحقيقية ( اسمه الحقيقي)، ووسع نطاق بحثه ليشمل أعمالا عالمية وموغلة في الماضي. نوه فليب لوجون بهذا العمل لكونه استعرض خطوات هامة لإضاءة المفهوم من زوايا متعددة.
هـ ـ المشهد الخامس، 1991-1992: توجت مساعي سيرج دوبروفسكي وجماعة "محكي الحياة" في نانتيرNanterre بتنظيم ندوة مشتركة حول التخييل الذاتي(18) . ومن حسناتها أنها استدعت بعض الأسماء التي سبق لها أن خاضت في تحديد المفهوم وتجنيسه، وأغنت النقاش بطرح وجهات نظرها والدفاع عنها ( على نحو فليب لوجون، سيرج دبروفسكي، جاك لوكارم). كما قدمت أسماء أخرى عروضا حول تصورها للمفهوم في ضوء المستحدثات المعرفية والمصطلحية ( على نحو آن روش، رجين روبان، جون ميشيل آدام،ميشيل كونطا..).
مما تقدم يمكن أن نبدي الملاحظات الآتية:
1- وإن اختلفت التصورات السابقة في تحديد هوية التخييل الذاتي، فهي تتفق في مسألة جوهرية، مؤداها عدم التعامل معه كجنس أدبي يتضمن قواعد صارمة، تحدد مقروئيته، وتخاطب أفق انتظار القراء وتوجههم. ولو تحكمت في هذه التصورات خلفية " الجنس النظري" لتمت مقاربة النصوص التي يتشكل منها التخييل الذاتي ( أكانت قديمة أم حديثة أم مفترضة) بوصفها أفقا لتكون جنس أدبي ممكن يتسم، عن غيره من الأجناس، بسمات شكلية وخصائص بنائية محددة(19). ويمكن لهذه السمات والخصائص المستنتجة بطريقة علمية أن تحفز على إنتاج التخييل وتلقيه، وتضفي الشرعية عليه حتى يصبح تقليدا أدبيا معترفا به في المشهد الأدبي. ولا يمنع الاعتراف المؤسساتي به من إعادة مساءلته في ضوء المستحدثات المعرفية والمنهجية.
2- استندت بعض التصورات في تمييز السيرة الذاتية من التخييل الذاتي إلى طبيعة القصة المحكية ( حياة العظماء/ حياة البسطاء) وإلى درجة الانزياح عن المرجع (نقل الواقع بأمانة أو إضفاء التخييل عليه).
أ ـ طبيعة القصة المحكية: تستدفع بعض التصورات التخييل الذاتي إلى دائرة محكي الحياة، الذي يكون ، حسب طبيعته ووظيفته، في متناول الناس العاديين ، على اختلاف مستوياتهم الثقافية والتعليمية، لسرد تجاربهم ومغامراتهم الشخصية بفجاجة وتلقائية و"صدق" و"أمانة". مع العلم أن التخييل الذاتي يتطلب من صاحبه حذقا فنيا وتكوينا أدبيا يمكنانه من إضفاء التخييل على مسار حياته الشخصية، واستخدام ألاعيب التمويه والخدع الفنية لمعاودة النظر في ذاته بمنظور فلسفة جديدين. وفي هذا الصدد، لا ينبغي أن تُحدد عظمة العمل الأدبي بالإحالة على منزلة صاحبه ( الانتساب إلى علية القوم)، وإنما على ما عاشه من تجارب استثنائية ومثيرة. كما أن التجربة الثرَّة وحدها لا تكفي إذ لا بد من توفر صاحبها ( أو من يساعده) على المؤهلات التي تسعفه على إعادة تشخيصها بطريقة فنية. وهكذا يمكن للسيرة الذاتية أن تستوعب قصة عادية، وعلى العكس يمكن للتخييل الذاتي أن يحوي حياة عظيمة ومثيرة. وعليه، لا يجب أن نحتكم في التمييز بينهما إلى طبيعة القصة المحكية، وإنما إلى طريقة سردها وتشخيصها. كما لا يجب أن نضع حدا بينهما بالرجوع إلى منازل الكتاب ودرجاتهم، وإنما إلى تفاوت قدراتهم الإبداعية في إعادة تشخيص الواقع المعيش.
ب ـ درجة الانزياح عن المرجع:
اعتمد هذا المعيار للتمييز بين السيرة الذاتية والتخييل الذاتي في مدى اقترابهما من المرجع أو انزياحمها عنه. تكون السيرة الذاتية وفية للسجل المرجعي (الالتزام الصريح، والصدق، والحقيقة الساذجة، وتطابق الهويات السردية). أما التخييل الذاتي فينزاح عن الواقع، ويعيد تشخيصه بطريقة خيالية، ويتمرد على مواضعات الميثاق السيرْذاتي (الالتزام المصطنع،و تزييف الحقائق المعيشة، وإضفاء التخييل على الذات، وعدم تطابق الهويات السردية). إن التعامل مع السيرة الذاتية بوصفها تشخيصا للحقيقة الساذجة هو تصور ساذج لا يقر بمزالق الكتابة وخدعها وقيودها ( الانتقاء، والتمويه، والحذف، والنسيان المتعمد أو النسيان الطبيعي، والحذف،والتمطيط..)، وما ينجم عنها من فجوات بين الواقع وشبيهه، ومن صعوبات في تذكر التجارب الشخصية واستحضارها كما وقت فعلا. إن وعي بعض كتاب السيرة الذاتية بصعوبة استرجاع ماضيهم الشخصي كما هو، حفزهم على تصنيف أعمالهم ضمن أجناس مفترضة ( السيرة الذاتية الخيالية، والسيرة الذاتية المتنكرة، والسيرة الذاتية الكاذبة،و السيرة الذاتية المتمردة، والسيرة الخرافية)(20) لتهيئ القراء على تلقيها ليس بوصفها صورا طبق الأصول، وإنما بصفتها أعمالا إبداعية يمتزج فيها الخيالي بالواقعي. وهذا ما أفضى، مع تراكم تجارب من هذا النوع، إلى صقل مفهوم التخييل الذاتي ليستوعب كل عمل يندرج في إطار المشاريع السيرذاتية المضادةAnti-autobiographique.
يمكن أن نستعين بالتصورات السابقة لتقديم فروق جوهرية بين السيرة الذاتية وبين التخييل الذاتي في انتظار أن يُحددا معا بوصفها جنسين أدبيين وليسا مشروعين للكتابة. ومن ضمن ما يميز التخييل عن السيرة الذاتية نذكر أساسا ما يلي: المراسم الاسمية، المراسم الجهية التخييلية، السمة التخييلة، الخطاب التخييلي، الالتزام المصطنع، التردد (أنا وليس أنا).
2- دليل العنفوان: التشكيك في صدقية الذكريات.
رغم افتراش عبد القادر الشاوي مَدَر النقد، فلقد تقصد عدم إثبات أي مؤشر على غرة الغلاف يجلي انتساب المؤلَّف(21) إلى جنس أدبي ما. فهل استهدف من هذا الصنيع تحطيم الحدود الوهمية التي تأسر النص في خانات مقننة أم تفويض مهمة التصنيف أو التجنيس إلى قراء مفترضين؟