منزلة "التخييل الذاتي" في المشهد الأدبي
محمد الداهي
PutArticleContent()
تقديم:
استأثر، في العقود الأخيرة، نمط جديد من الكتابة عن الذات (التخييل الذاتي) باهتمام النقاد والكتاب على حد سواء. ورغم كثرة الجدل المثار حوله مازالت منزلته ملتبسة داخل المشهد الأدبي؟ هل هو بديل عن التصور السيرذاتي التقليدي؟ بم يتميز عنه؟ أتوجد ضرورة لعقد ميثاق التخييل الذاتي على غرار الميثاق السيرٍْذاتي والميثاق الروائي؟ أتتوفر فيه مواصفات الجنس الأدبي؟ نزعم أننا سنقدم أجوبة جامعة مانعة عن هذا المفهوم الذي أصبح يزحزح كثيراً من اليقينيات التي علقت بالكتابة عن الذات منذ ما يربو على أربعة عقود. سنعرض بعض التعاريف المقترحة له، ثم سنناقشها للتوقف على الخلفيات المتحكمة فيها، ثم سنشتغل على عينتين تخييليتين تستجيبان لطبيعة موضوع الدراسة، وتتوافر فيهما معايير التخييل الذاتي.
1 ـ ما التخييل الذاتي؟
1-1 من خلال عنوان الأطروحة(1) يتضح أن صاحبها سيركز على جانب أساسي يتعلق بإضفاء التخييل على الذات، أو بعبارة أخرى سينكب على دراسة مختلف الأشكال والصيغ التلفظية والتداولية التي تسعف الكاتب على توسيع الهوة بينه وبين ذاته والتعامل معها كما لو كانت طرفا مخالفا له. وفي هذه العملية الإبداعية يخلق الكاتب لدى القارئ انطباعا مفاده أن ما يحكيه لا يمت إلى ذاته بأية صلة. فمازال التخييل الذاتي يعتبر أرضا مجهولة (Terra incognita) وإن بدأت بعض معالمها تتضح شيئا فشيئا. ويرجع الفضل في اكتشافه إلى سيرج دوبروفسكيٍ Doubrovsky Serge الذي علل على ظهر غلاف عمله الابن(2) (1977) دواعي تصنيفه ضمن خانة التخييل الذاتي، كما سبق له أن خصص دراستين(3) للتوسع في المفهوم وتحديد سماته العامة، التي يمكن أن تُجمل فيما يلي:
ا- سمة تخييلية: إذا كانت السيرة الذاتية تكترث بحياة العظماء، فإن التخييل الذاتي يهتم بحياة الناس العاديين.
ب- سمة موضوعاتية: يتقاطع التخييل الذاتي مع باقي أشكال الكتابة عن الذات في كونه يسرد الحياة "الحقيقية" للمترجم له، لكنه يتميز عنها في انزياحه عن السجل المرجعي.
ج- سمة شكلية: يعتبر التخييل الذاتي مغامرة لغوية تعنى بالمحسنات البديعية (الجناس، والسجع، والتشاكل الصوتي).
د- سمة جنسية: ملأ التخييل الذاتي الخانة الفارغة التي أصبح الكاتب، بمقتضاها، شخصية خيالية.
إن تمكُّن سيرج د وبروفسكي من صقل المفهوم ساعده على حل معضلة تكاثر المصطلحات التي ترمي إلى تفسير ظاهرة إضفاء التخييل على التجارب الشخصية. ومن بينها نذكر أساسا ما يلي: الرواية السيرذاتية، السيرة-الرواية، السيرة الذاتية الاستيهامية، السيرة الذاتية المتوهمة، الرواية-المرآة، التخييل-الحصيلة، رواية المغامرات الشخصية..الخ. وفيما يلي المعايير التي اعتمد عليها سيرج دوبروفسكي لحصر مجال التخييل الذاتي وضبطه:
أ ـ المراسم الاسمية: حلل فانسون كولوناVincent Colonna مختلف الألاعيب التي يلجأ إليها الكاتب للتميُّز عن ضعفه. ومنها وسمه بأسماء مستعارة، وبألقاب وكنى غير معروفة.
ب ـ المراسم الجهية التخييلية: يبين كولونا في هذا المعيار كيف يمكن للكاتب أن ينفصل عن قصته إلى حد يجعل القارئ يتوهم بأنه مجرد ضرب من الخيال. ومن بين الإجراءات التي يعتمد عليها لإضفاء التخييل على الذات نذكر أساسا ما يلي: وضع لفظ الرواية على وجه غلاف الكتاب، واضطلاع الكاتب بتأكيد الطابع الخيالي للعمل في مقدمته، إدراج القوى الغيبية في أطوار القصة،و توظيف مؤشرات تركيبية أو دلالية أوتداولية تجعل القصة اللاواقع (Irréalité).
ج ـ الخطاب الخيالي: ويقوم أساسا على الازدواج المضاعف : تخييل القصة وتخييل الخطاب الذي يتضمن القصة من جهة، و يستتبع توطُّدَ طريقة خاصة في سرد القصة أي التركيز على محكي التخييل أكثر من محكي القصة من جهة أخرى.
أشرنا في البداية إلى أن كولونا يميز
محمد الداهي
PutArticleContent()
تقديم:
استأثر، في العقود الأخيرة، نمط جديد من الكتابة عن الذات (التخييل الذاتي) باهتمام النقاد والكتاب على حد سواء. ورغم كثرة الجدل المثار حوله مازالت منزلته ملتبسة داخل المشهد الأدبي؟ هل هو بديل عن التصور السيرذاتي التقليدي؟ بم يتميز عنه؟ أتوجد ضرورة لعقد ميثاق التخييل الذاتي على غرار الميثاق السيرٍْذاتي والميثاق الروائي؟ أتتوفر فيه مواصفات الجنس الأدبي؟ نزعم أننا سنقدم أجوبة جامعة مانعة عن هذا المفهوم الذي أصبح يزحزح كثيراً من اليقينيات التي علقت بالكتابة عن الذات منذ ما يربو على أربعة عقود. سنعرض بعض التعاريف المقترحة له، ثم سنناقشها للتوقف على الخلفيات المتحكمة فيها، ثم سنشتغل على عينتين تخييليتين تستجيبان لطبيعة موضوع الدراسة، وتتوافر فيهما معايير التخييل الذاتي.
1 ـ ما التخييل الذاتي؟
1-1 من خلال عنوان الأطروحة(1) يتضح أن صاحبها سيركز على جانب أساسي يتعلق بإضفاء التخييل على الذات، أو بعبارة أخرى سينكب على دراسة مختلف الأشكال والصيغ التلفظية والتداولية التي تسعف الكاتب على توسيع الهوة بينه وبين ذاته والتعامل معها كما لو كانت طرفا مخالفا له. وفي هذه العملية الإبداعية يخلق الكاتب لدى القارئ انطباعا مفاده أن ما يحكيه لا يمت إلى ذاته بأية صلة. فمازال التخييل الذاتي يعتبر أرضا مجهولة (Terra incognita) وإن بدأت بعض معالمها تتضح شيئا فشيئا. ويرجع الفضل في اكتشافه إلى سيرج دوبروفسكيٍ Doubrovsky Serge الذي علل على ظهر غلاف عمله الابن(2) (1977) دواعي تصنيفه ضمن خانة التخييل الذاتي، كما سبق له أن خصص دراستين(3) للتوسع في المفهوم وتحديد سماته العامة، التي يمكن أن تُجمل فيما يلي:
ا- سمة تخييلية: إذا كانت السيرة الذاتية تكترث بحياة العظماء، فإن التخييل الذاتي يهتم بحياة الناس العاديين.
ب- سمة موضوعاتية: يتقاطع التخييل الذاتي مع باقي أشكال الكتابة عن الذات في كونه يسرد الحياة "الحقيقية" للمترجم له، لكنه يتميز عنها في انزياحه عن السجل المرجعي.
ج- سمة شكلية: يعتبر التخييل الذاتي مغامرة لغوية تعنى بالمحسنات البديعية (الجناس، والسجع، والتشاكل الصوتي).
د- سمة جنسية: ملأ التخييل الذاتي الخانة الفارغة التي أصبح الكاتب، بمقتضاها، شخصية خيالية.
إن تمكُّن سيرج د وبروفسكي من صقل المفهوم ساعده على حل معضلة تكاثر المصطلحات التي ترمي إلى تفسير ظاهرة إضفاء التخييل على التجارب الشخصية. ومن بينها نذكر أساسا ما يلي: الرواية السيرذاتية، السيرة-الرواية، السيرة الذاتية الاستيهامية، السيرة الذاتية المتوهمة، الرواية-المرآة، التخييل-الحصيلة، رواية المغامرات الشخصية..الخ. وفيما يلي المعايير التي اعتمد عليها سيرج دوبروفسكي لحصر مجال التخييل الذاتي وضبطه:
أ ـ المراسم الاسمية: حلل فانسون كولوناVincent Colonna مختلف الألاعيب التي يلجأ إليها الكاتب للتميُّز عن ضعفه. ومنها وسمه بأسماء مستعارة، وبألقاب وكنى غير معروفة.
ب ـ المراسم الجهية التخييلية: يبين كولونا في هذا المعيار كيف يمكن للكاتب أن ينفصل عن قصته إلى حد يجعل القارئ يتوهم بأنه مجرد ضرب من الخيال. ومن بين الإجراءات التي يعتمد عليها لإضفاء التخييل على الذات نذكر أساسا ما يلي: وضع لفظ الرواية على وجه غلاف الكتاب، واضطلاع الكاتب بتأكيد الطابع الخيالي للعمل في مقدمته، إدراج القوى الغيبية في أطوار القصة،و توظيف مؤشرات تركيبية أو دلالية أوتداولية تجعل القصة اللاواقع (Irréalité).
ج ـ الخطاب الخيالي: ويقوم أساسا على الازدواج المضاعف : تخييل القصة وتخييل الخطاب الذي يتضمن القصة من جهة، و يستتبع توطُّدَ طريقة خاصة في سرد القصة أي التركيز على محكي التخييل أكثر من محكي القصة من جهة أخرى.
أشرنا في البداية إلى أن كولونا يميز